الأربعاء 05 تشرين ثاني , 2025 03:49

رغم إحكام القبضة: التغيرات تحدث في عقر دار ترامب

تحولات الداخل الأميركي رغم القبضة الترامبية

خلال ولايته الثانية، سعى دونالد ترامب إلى إحكام قبضته على الداخل الأميركي عبر أدوات السلطة الصلبة بدءاً من التشريعات التي تُقيد حرية الإعلام، والانتشار الواسع للحرس الوطني في المدن الأميركية الكبرى لا سيما العاصمة واشنطن، وتهديد بقطع التمويل عن الولايات التي تعارض سياساته مثل مدينة نيويورك. بدا ترامب آنذاك كمن يمسك بمفاتيح الدولة كافة ويحكم السيطرة على المفاصل. لكن هذه القبضة المحكمة لم تتمكّن من منع التبدلات العميقة التي كانت تتكوّن بصمت داخل المجتمع الأميركي نفسه. إذ بدأت تظهر، حتى في معاقل المحافظين -الذين هم أكثر تشدداً-، ملامح تيار جديد أكثر وعياً بتناقضات النظام، وأكثر جرأة في عرض الأفكار والتوجهات الجديدة التي تدعو إلى التغيير وبرزت هذه الحالة بشكل أوسع في صفوف الشباب.

انكشاف الوهم الديمقراطي

أحد أهم أسباب صعود هذا التيار المعارض هو سقوط القناع عن "الديمقراطية الأميركية" بوصفها نموذجاً يُحتذى به لعقود. فالأحداث التي تلت الحرب على غزّة كشفت أن القيم التي طالما تغنّت بها واشنطن ليست سوى أدوات انتقائية تُستخدم لتبرير مصالحها.

المشاهد التي انتشرت من غزة طيلة عامين، وصمت الإدارة الأميركية أمام المجازر التي ما زالت مستمرة، ولّد في الداخل الأميركي شعوراً بالخيبة العميقة. كثير من الشباب الأميركيين، وخصوصاً في الجامعات، وجدوا أنفسهم للمرة الأولى في مواجهة مباشرة مع ازدواجية بلادهم حيث أن دولتهم تتغنى بحقوق الإنسان -كذلك الحيوان كالقطط- لكنها تساند أفظع إبادة حصلت في التاريخ الحديث. هذا الإدراك أحدث شرخاً في الوعي الجمعي، وولّد تيارات فكرية وسياسية جديدة ترى أن الخطأ ليس في ترامب وحده، بل في المنظومة التي سمحت له بالوصول إلى السلطة أصلاً.

انشغال النخبة

عامل آخر يفسّر هذا التحول يتمثل في انشغال النخب السياسية الأميركية بحروب الخارج وصراعات النفوذ، لا سيما الانشغال الأميركي بالشرق الأوسط -في ظل نفي الأميركي لمصطلح التدخلات واعتبارها "مساعدة" للدول-، ما جعل الداخل الأميركي يعيش فراغاً سياسياً حقيقياً. في هذا الفراغ، بدأت القوى التقدمية والمناهضة للعنف الذي تدعمه أميركا تنشط على نحو غير مسبوق، مستفيدة من الحيز التي تمنحه وسائل التواصل الاجتماعي والاحتجاجات التي تنظم كل فترة في ولاية معينة.

"إسرائيل"، التي تمثل حجر الزاوية في سياسة ترامب الشرق أوسطية، تحولت إلى عبء على صورته وعلى صورة الولايات المتحدة نفسها. فالتغطية الأميركية على جرائم الحرب الإسرائيلية جعلت شريحة واسعة من الأميركيين ترى أن بلادهم تُدار وفق مصالح لوبيات محددة لا تعبّر عنهم، بل تضعهم في مواجهة العالم.

وجوه جديدة

لم تعد المعارضة لترامب محصورة بالدوائر النخبوية أو الحركات اليسارية، بل بدأت تعبّر عن نفسها في صناديق الاقتراع أيضاً. ففوز شخصيات مثل زهران ممداني، ذي الأصول الهندية والمنتمي للتيار المناهض للصهيونية، بمنصب عمدة نيويورك، يشكّل مؤشراً واضحاً على تغيّر المزاج الشعبي في المدن الكبرى.

هذا الفوز لم يكن مجرد حدث انتخابي، بل تعبير عن تحوّل ثقافي واجتماعي أعمق. فالمجتمع الأميركي بات أكثر استعداداً لتقبّل وجوه لا تشبه الطبقة السياسية التقليدية، وأكثر ميلاً لمساءلة دور بلاده في الحروب الخارجية. إن وصول ممداني وآخرين من خلفيات مناهضة لسياسات ترامب يشكل تحدياً للسلطة التي تطمح لتجديد ولايتها باستمرار ويضع أمامها العقبات التي تقيدها ولو قليلاً.

ما بعد القبضة... أميركا على مفترق

هذه التحولات لا تعني بالضرورة نهاية الترامبية، لكنها تشير إلى أن النموذج الذي مثّله ترامب لم يعد مطلق السيطرة كما كان. فالأجيال الجديدة التي أصبحت تملك رؤية واضحة عما تمارسه أميركا في الخفاء وتطالب بالعدالة الاجتماعية للشعوب، تشكّل اليوم قاعدة لمرحلة أميركا مختلفة.

إنها لحظة تواجه فيها الولايات المتحدة نفسها فهل يمكنها الاستمرار كقوة عالمية دون إعادة النظر في سياساتها العنصرية والخارجية؟

مهما بلغت إجراءات ترامب من صرامة، يبدو أن التغيرات الحقيقية لا يمكن منعها. وهكذا، رغم إحكام القبضة، فإن التغيّرات تجري فعلاً في عقر دار ترامب، وتذكّر بأن الشعوب — حتى في أكثر الأنظمة خداعاً — قادرة على إنتاج مراجعة وبلورة لمواقفها وتوجهاتها.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور