منذ عودته الثانية إلى المشهد السياسي الأميركي، يحاول دونالد ترامب إعادة صياغة صورة العاصمة واشنطن لتصبح رمزاً لسطوته الشخصية أكثر من كونها مركزاً لأميركا. ما يفعله ترامب اليوم بات أقرب إلى ممارسة سلوكيات يرى الأميركيون أنها تحمل ملامح الفاشية الكلاسيكية: توظيف القوة، قمع المعارضين، تحويل المؤسسات إلى أدوات بيد السلطة، وتغليب الولاء الشخصي على القيم الدستورية.
ممارسة الفاشية
الفاشية الترامبية في واشنطن تتجلى أولاً في محاولاته المستمرة لوصم كل مؤسسات الدولة التي لا تخضع له بـ "الفاسدة" أو "العدوة للشعب"، وهو خطاب يذكّر بأساليب الأنظمة التي احتقرت الدساتير واستبدلتها بإرادة الزعيم الواحد. ومن أبرز الأمثلة ما يقوم به تجاه وزارة العدل والمحاكم، حيث يصف أي محاكمة تطاله بأنها "مؤامرة" أو "اضطهاد سياسي"، في محاولة لتجريد الجهاز القضائي من شرعيته أمام أنصاره.
ثانياً، يسعى ترامب إلى تحويل العاصمة واشنطن إلى منصة استعراض قوة، لا سيما عبر تنظيم تجمعات شعبوية ضخمة يستعرض فيها نفوذه ويهاجم خصومه بطريقة حادة. هذه التجمعات التي تُرفع فيها شعارات الولاء المطلق له، وتُهاجم الصحافة والأقليات، تزرع الانقسام وتدفع باتجاه عسكرة الخطاب السياسي.
ثالثاً، ما يثير قلق الأميركيين هو تحريضه المتكرر ضد الإعلام والهيئات التشريعية، حيث بات يصف الكونغرس أحياناً بأنه "عائق أمام الشعب"، ويحمّل الصحافة مسؤولية "تشويه الحقيقة". هذه اللغة تحاكي الأنماط الفاشية التي تشيطن كل من يعارضها.
الخطير أن هذه الممارسات لا تقتصر على الخطاب فقط، بل تتجسد في سياسات عملية، مثل محاولاته الحالية لتوظيف قوات الأمن الفيدرالية ضد المتظاهرين في واشنطن، وتشجيع أنصاره على "استعادة العاصمة" بالقوة. هذه الأحداث تركت أثراً لدى الأميركيين الذين رأوا تهديداً "لركائز الديمقراطية" يمارسه ترامب دون أخذ مخاطره وما يترتب عليه بالحسبان.
لهذا، لم يعد غريباً أن يصف العديد من المثقفين والسياسيين والناشطين ترامب بأنه يتصرف بطريقة فاشية. فالرجل الذي يروّج لفكرة "الزعيم المنقذ" و"الدولة في شخص الرئيس" إنما يضع أميركا على مسار مقلق، ولهذا برزت العديد من الآراء مؤخراً التي ترى بأن أميركا بعد ترامب لن تكون أميركا التي قبله في إشارة سلبية إلى ما يقوم به من خطوات غير مدروسة داخل وخارج أميركا.
واشنطن كمنصة اختبار
في العاصمة الأميركية تم نشر قرابة 800 عنصر من الحرس الوطني وفرق اتحادية لفرض "نظام طوارئ" أُعلن بدعوى اجتياح المدينة من قِبل "عصابات دموية ومجرمين ومتعاطين ومشردين". لكن المعطيات التي أوردتها وزارة العدل أعلنت أن معدلات العنف في عام 2024 انخفضت 35% مقارنة بعام 2023. وعلى هذا الأساس وصف مجلس العاصمة الخطوة بأنها "تدخل مُصنَّع" في السلطة المحلية، وأن الحرس الوطني غير مهيّأ بتاتاً لممارسة مهام الشرطة المدنية.
لماذا يتبع ترامب هذا النهج؟
اعتماد ترامب على الأسلوب الفاشي ينبع أساساً من رغبته في السيطرة المطلقة على الساحة السياسية وتعزيز سلطته الشخصية على حساب المؤسسات والقواعد الديمقراطية. من خلال استخدام الخوف، التضخيم الإعلامي للأزمات، واستهداف المعارضين، يسعى لإجبار الجمهور على الطاعة والتوافق مع توجهاته، بما يخلق له قاعدة ولاء قوية. يبدو أن ترامب يعتقد أن هذا الأسلوب يزيد فرص نجاحه السياسي لأنه يتيح له التحرك بسرعة، تخويف الخصوم، وتفادي العقبات التقليدية التي قد تعترض طريقه. كما أنه يعتمد على استغلال الانقسامات الاجتماعية والسياسية، مستثمراً في شعور الجمهور بالتهديد أو الخطر، ليجعلهم يبررون له أي تصرف استثنائي أو استبدادي يقوم به. بعبارة أخرى، ترامب يظن أن السيطرة على الرأي العام عبر الخوف والتضليل تمنحه قوة أكبر للنجاح، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب والمؤسسات القانونية.
هل ينجح هذا النهج؟
نجاح ترامب في هذا الأسلوب ليس مضموناً، لأنه يعتمد على عاملين رئيسيين: استجابة الجمهور والتوازن المؤسسي. من جهة، قد ينجح في تحريك قاعدة واسعة من المؤيدين الذين يصدقون سرديته ويستجيبون للخوف والتضخيم الإعلامي، ما يمنحه قوة سياسية كبيرة على المدى القصير. لكن من جهة أخرى، المؤسسات المعارضة له مثل القضاء، ووسائل الإعلام المستقلة، تمثل حاجزاً أمام أي محاولات للسيطرة المطلقة. علاوة على ذلك، الفاعلية الطويلة لهذا الأسلوب تتأثر بمدى التعب والإرهاق النفسي للجمهور، وكشف الأكاذيب، وانخفاض ثقة الناس به. لذلك، يمكن القول إن ترامب قد يحقق مكاسب مؤقتة ويقوي نفوذه في بعض المجالات، لكنه يواجه حدوداً واضحة تجعل النجاح الدائم لهذا الأسلوب صعب التحقيق.
الكاتب: غرفة التحرير