الخميس 28 آب , 2025 03:38

السيادة المعلّقة على حبل الإملاءات: كيف أضاع لبنان فرصة ترسيخ سيادته؟

مجلس الوزراء اللبناني وتوم براك

يشكّل ملف السيادة الوطنية في لبنان محطة أساسية تحدّد مستقبل الدولة ودورها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. غير أنّ الأداء الحكومي في المرحلة الأخيرة كشف عن سلسلة من الهفوات التي عكست غياب رؤية استراتيجية متكاملة، وأدّت إلى عرقلة مسار ترسيخ السيادة واستثمار الإنجازات الوطنية. فالمواقف الرسمية الأخيرة اتّسمت بارتباك واضح بين ضغوط الخارج وإكراهات الداخل، ما أسفر عن قرارات متسرعة ومتعارضة مع مقتضيات الدستور والميثاق الوطني، وأضعف موقع لبنان التفاوضي سواء أمام الاحتلال الإسرائيلي أو في علاقته بالمجتمع الدولي.

لقد بدا جلياً أنّ الحكومة لم تضع خطة سياسية شاملة تحدّد كيفية استعادة السيادة على كامل الأراضي اللبنانية، ولم تُحسن التنسيق بين الملفات السياسية والعسكرية والإعلامية والاقتصادية، وهو ما أضعف موقفها أمام القوى الخارجية. وفي ظل هذا الغياب للتخطيط الاستراتيجي، اتخذت الحكومة قرارات مصيرية تحت وطأة الضغوط، أبرزها قرار تجريد المقاومة من سلاحها في وقت ما زالت فيه أجزاء من الجنوب تحت الاحتلال الإسرائيلي وما زالت التهديدات التوسعية قائمة. هكذا ظهر الخضوع جلياً للإملاءات الأميركية – الإسرائيلية، من دون مراعاة خصوصية الميثاق الوطني أو احترام الدستور.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أُضعف موقع لبنان التفاوضي عبر الدخول في نقاشات داخلية حول الاستراتيجية الدفاعية من دون أن يُشترط الانسحاب الإسرائيلي الكامل أو وقف العدوان كشرط مسبق. فاعتمدت الحكومة في ملف السيدة مقاربة تقوم على "تنازل مقابل تنازل"، وهو ما أفقد لبنان أوراق قوته في لحظة كان يحتاج فيها إلى تعزيز موقعه.

من جهة أخرى، كان لافتاً أنّ الحكومة تجاهلت الأولويات الوطنية الملحّة بعد الحرب. إذ لم يُعتبر ملف إعادة الإعمار ولا قضية الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية من الأولويات العاجلة، كما لم توضع خطة واضحة لاستثمار حالة التضامن الشعبي العارم بعد العدوان في بناء موقف وطني جامع. وقد انعكس ذلك على إدارة ملف المقاومة، حيث جرى تصويرها وكأنها "وظيفة انتهت"، في تجاهل صريح لحقيقة أنّها كانت ولا تزال جزءاً من معادلة الردع والسيادة. كما أغفلت الحكومة الاعتراف بالإنجازات الاستثنائية التي حققتها المقاومة، سواء في تحرير الجنوب عام 2000 أو في تكريس الردع خلال المواجهات الممتدة بين 2006 و2023.

أما فيما يتعلق بالعلاقة مع الجيش اللبناني، فقد أظهرت الحكومة ضعفاً واضحاً في مقاربة هذا الملف. فبدلاً من السعي إلى تعزيز قدرات الجيش بالتسليح اللازم لمواجهة إسرائيل ومشاريعها التوسعية، اكتفت بحصر الدعم الأميركي له في أطر داخلية محدودة. كما لم تُطرح أي خطة متوازنة تضع "الجيش + المقاومة" في معادلة واحدة تشكّل رافعة حقيقية للسيادة الوطنية.

ويُضاف إلى ذلك غياب الشجاعة السياسية في مواجهة الخارج، حيث خضعت الحكومة بالكامل للضغوط الأميركية من دون أن تقدّم بدائل أو تُظهر موقفاً سيادياً صلباً. بل بدا القبول الضمني واضحاً بسياسات واشنطن التي أضرّت بلبنان، سواء من خلال العقوبات أو عبر منع المساعدات وعرقلة عملية إعادة الإعمار.

على الصعيد الداخلي، ساهمت قرارات الحكومة في إضعاف الوحدة الوطنية. فقد خلقت شرخاً داخلياً حول سلاح المقاومة بدلاً من السعي إلى بناء توافق وطني جامع حول استراتيجية دفاعية مشتركة. كما جرى تهميش القوى الشعبية والأحزاب التي طالبت بترسيخ السيادة، من دون إشراكها في صياغة رؤية شاملة لمستقبل لبنان الدفاعي والسياسي.

الأهم من ذلك أنّ الحكومة أهدرت فرصة تاريخية بعد الحرب. فبدلاً من استثمار موجة التضامن الشعبي والإنجازات الميدانية للمقاومة في تقوية الموقف التفاوضي للبنان، سارعت إلى تقديم تنازلات مسبقة من دون أي ضمانات مقابلة. وهو ما جعل الدولة تظهر في موقع الطرف الضعيف الذي يتخلى عن أوراقه من غير أن يحصّل مكاسب ملموسة.

في المحصلة، ارتكبت الحكومة اللبنانية جملة من الأخطاء الجوهرية في إدارة ملف السيادة الوطنية بعد وقف إطلاق النار. أخطاء يمكن تلخيصها بالارتهان للإملاءات الخارجية، التسرع في قرارات تمس المقاومة، ضعف التنسيق بين المؤسسات، وإهمال الأولويات الوطنية مثل الإعمار واستعادة الأسرى. وهذه الهفوات لم تقتصر آثارها على إضعاف موقع لبنان الخارجي، بل هددت أيضاً وحدة الموقف الداخلي، وجعلت قدرة الدولة على حماية أرضها وحقوقها عرضة للاهتزاز في مواجهة العدوان الإسرائيلي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور