منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، راهن قادة الاحتلال على القوة الغاشمة باعتبارها المدخل الحاسم لترويض المقاومة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني. بنيامين نتنياهو، الذي يعيش تحت وطأة أزماته الداخلية والمحاكمات القضائية والضغط الشعبي، حاول أن يوظّف الحرب باعتبارها "معركة وجودية" تعيد له موقع القيادة وتثبت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر". لكن ما جرى في بيت حانون مؤخراً –في كمين محكم نفذته كتائب القسام– قدّم نموذجاً مضاداً تماماً، يفضح وهم الهيمنة العسكرية، ويكشف أن الاحتلال غارق في حرب لا يمكنه الانتصار فيها.
الكمين كمرآة لفشل العقيدة "العسكرية الإسرائيلية"
كمين بيت حانون لم يكن فقط عملية ميدانية ناجحة؛ بل هو رسالة مركبة. فقد استهدف قوة من "نتساح يهودا" –إحدى أكثر الكتائب شراسة في الضفة الغربية– وأوقع خمسة قتلى وعشرين جريحاً، على مرأى ومسمع من قاعدة إيرز العسكرية. الأهم أن العملية بُنيت على تخطيط استخباراتي دقيق: عبوات ناسفة زُرعت قبل 12 ساعة، كاميرات مراقبة سرية نصبت في المنطقة، وتكتيك مزدوج أوقع قوة الإسناد بعد القوة الأولى.
لكن ما منح الكمين بعداً إضافياً هو البعد الزمني: فقد جرت العملية في 7 يوليو/تموز الماضي، بينما لم تُنشر المشاهد المصورة إلا أول أمس الثلاثاء، أي بعد مرور نحو أربعين يوماً. هذه الفجوة الزمنية بحد ذاتها تحمل رسالة مزدوجة: أن منفذي العملية عادوا بسلام رغم شدة القصف، وأن المقاومة اختارت توقيت النشر بعناية لإحداث وقع سياسي وإعلامي مضاعف، وفضح رواية الاحتلال الذي زعم أنه حسم كتيبة بيت حانون.
الهجوم التكتيكي: مقاومة تعرف كيف تُدير الأرض
ما يميز الكمين هو اعتماده على مفهوم الهجوم التكتيكي، أي أن المقاومة قد تتخلى عن السيطرة على أرض معينة مقابل إيقاع خسائر فادحة بالعدو. هذا المفهوم ينسجم مع طبيعة حرب العصابات، لكنه في غزة أخذ بعداً جديداً: المقاومة لا تدافع عن مواقع ثابتة، بل تنسحب وتعود، تلغم وتضرب، ثم تختفي. النتيجة: احتلال يعيش في رعب دائم، لا يعرف إن كان الطريق الذي يسلكه ملغماً أو مراقباً.
هذه المرونة هي ما يجعل نتنياهو عاجزاً عن تنفيذ خطته لاحتلال مدينة غزة. فحتى لو دخلت "القوات الإسرائيلية" عمق المدينة، فإن المشهد سيتكرر: كمائن، عبوات، اشتباكات خاطفة، وانسحاب سريع. إنها "حرب استنزاف" تستنزف الجيش من داخله وتفكك هيبته أمام "الرأي العام الإسرائيلي" والعالمي.
بين الوهم الاستعماري والواقع المقاوم
إن الكمين ليس فقط حدثاً عسكرياً بل هو نص سياسي يفكك الخطاب "الإسرائيلي" الاستعماري. "إسرائيل" تقدم نفسها للعالم كديمقراطية قوية تملك أحدث الأسلحة والتكنولوجيا، لكنها في غزة تواجه مأزقاً وجودياً: كيف يمكن لجيش يصنّف من بين الأقوى عالمياً أن يعجز أمام مجموعة مقاتلين يعملون من تحت الركام؟ الجواب يكمن في أن القوة العسكرية، مهما بلغت، لا تستطيع أن تكسر إرادة التحرر.
بيت حانون، التي سُويت بالأرض منذ بداية العدوان، عادت لتقول إن المكان لا يُمحى بالقصف، وإن المجتمع الفلسطيني قادر على إعادة إنتاج المقاومة حتى من تحت الركام. هذه هي المفارقة الكبرى التي تفشل "إسرائيل" في إدراكها: أن الدمار يولّد مقاومة أكثر صلابة، وأن كل عملية قتل أو اجتياح تتحول إلى محفّز لتجدد المواجهة.
نتنياهو أمام جدار مسدود
بالنسبة لنتنياهو، تمثل هذه العملية كابوساً حقيقياً. فهو يدرك أن أي محاولة للتوغل أكثر في غزة ستعني تكرار السيناريو ذاته: خسائر متواصلة، انكشاف استخباراتي، وتآكل ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه. والأهم أن المقاومة تُثبت للعالم أن الجيش الإسرائيلي، الذي يتفاخر بقوته التكنولوجية، عاجز عن إخضاع شعب محاصر منذ عقدين.
الرسالة واضحة: غزة لن تكون مدينة محتلة كما يخطط نتنياهو، بل ستكون مقبرة لوهم الهيمنة. كل شارع وزقاق قد يتحول إلى بيت حانون جديدة، وكل محاولة للسيطرة على الأرض ستقابل بكمين أشد وقعاً.
غزة تُفكك أوهام القوة
كمين بيت حانون ليس فقط عملية عسكرية ناجحة بل هو إعلان سياسي–عسكري يختصر جوهر الصراع. المقاومة تقول إن الحرب لم تُحسم، وإن ما يُقدّم للعالم على أنه خطة "إسرائيلية" لاحتلال غزة ليس سوى وهم آخر من أوهام الاستعمار.
بهذا المعنى، يقدّم الكمين نموذجاً عملياً لما سيواجهه الاحتلال إن حاول اقتحام مدينة غزة. فهناك، في الأزقة المظلمة والأنفاق والبيوت المدمرة، ستتفكك كل أوهام "القوة الإسرائيلية". غزة لا تحارب فقط دفاعاً عن نفسها، بل تقدّم درساً للعالم: أن الشعوب، مهما كانت محاصرة، قادرة على مقاومة الإمبراطوريات وتفكيك أساطيرها.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com