الخميس 14 آب , 2025 03:11

القوات اللبنانية: من الإرث الدموي إلى المشروع الانعزالي

سمير جعجع وأعلام القوات اللبنانية

يعتمد حزب "القوات اللبنانية" في بناء شرعيته على سردية تاريخية تصوّر نفسه كحركة مقاومة مسيحية نشأت لحماية المكوّن المسيحي في لبنان. غير أنّ هذا الإرث، عند إخضاعه للتحليل النقدي، يتحوّل إلى عبء تاريخي يلازم الحزب حتى اليوم، ويشكّل "الخطيئة الأصلية" التي تقوّض أي ادعاء لاحق بالوطنية الجامعة.

السجل الدموي والعنف الممنهج

شهدت الحرب الأهلية اللبنانية سلسلة من المجازر والصراعات التي تورّطت فيها "القوات"، أبرزها مجزرة إهدن (1978)، والصفرا (1980)، وصبرا وشاتيلا (1982). هذه الأحداث لم تكن مجرد أخطاء ظرفية، بل كانت انعكاساً لمنهجية عسكرية إقصائية، تحالفت خلالها "القوات" مع الجيش الإسرائيلي وأخذت منه السلاح والدعم اللوجستي. هذه الوقائع تركت وصمة لا يمكن محوها من الذاكرة الجماعية، وجعلت الحزب يفتقر إلى أي شرعية أخلاقية على مستوى الوطن، خصوصاً في نظر المكوّنات التي كانت ضحية لهذه الانتهاكات.

وفي عام 1990، خاضت "القوات" حرب الإلغاء ضد الجيش اللبناني، وهو ما كشف بوضوح أنّ ولاءها كان لمشروع سلطوي خاص بها، وليس لمؤسسات الدولة. ومن المفارقة أنّ الحزب، الذي حاول تقويض الجيش في الماضي، يرفع اليوم شعار "حصر السلاح بيد الجيش"، ما يجعل خطابه الحالي فاقداً للمصداقية التاريخية.

ورغم ادعائها الدفاع عن وحدة المسيحيين، انخرطت "القوات" في صراعات دموية ضد قوى مسيحية أخرى، مثل تصفية ميليشيا "النمور" ومجزرة إهدن. هذه الصراعات تثبت أنّ هدف الحزب كان احتكار القرار المسيحي بالقوة، لا توحيد الصفوف، وهو ما جعله طرفاً إقصائياً حتى داخل بيئته.

التحالف التاريخي مع إسرائيل والرؤية الانعزالية

يمثل هذا التحالف أخطر نقاط الضعف البنيوية في خطاب "القوات". فقد تلقت كوادره التدريب والسلاح من إسرائيل، ونسّقت معها عسكرياً وسياسياً خلال اجتياح 1982 وحتى بداية التسعينيات. هذا الإرث التحالفي يقوّض أي خطاب سيادي لاحق، لأنه يضع الحزب في خانة الكيانات التي اختارت التحالف مع العدو بدل التوافق مع شركائها في الوطن.

يحمل الحزب رؤية فكرية انعزالية تقوم على قومية لبنانية منفصلة عن محيطها العربي، وتتقاطع مع طروحات الفيدرالية. في بلد متعدّد الطوائف مثل لبنان، يثير هذا الطرح مخاوف من العودة إلى منطق التقسيم وإقامة كانتونات معزولة. كما أنّ الانغلاق الطائفي الذي تروّج له هذه الرؤية يضع المسيحيين في موقع الأقلية المحاصرة التي تحتاج دوماً إلى حماية خارجية، بينما أثبت التاريخ أن قوتهم تكمن في كونهم جسراً للتواصل بين مكوّنات الوطن.

من خطاب مكافحة الفساد إلى شبهة الشراكة فيه

إلى جانب إرثه التاريخي، تكشف ممارسات "القوات اللبنانية" السياسية والحكومية عن فجوة واسعة بين الخطاب المثالي والشعارات الإصلاحية من جهة، والأداء العملي على الأرض من جهة أخرى.

لطالما قدّم الحزب نفسه كقوة نظيفة تقف خارج منظومة الفساد، لكن التجربة العملية في الوزارات التي تولاها أظهرت عكس ذلك. فقد وُجّهت اتهامات بالفساد وسوء الإدارة لعدد من وزرائه ونوابه، مثل غسان حاصباني وكميل أبو سليمان، إضافة إلى شبهات طالت شخصيات أخرى. كما كشف الأداء الحكومي عن اعتماد الحزب على آليات الزبائنية والمحاصصة نفسها التي يندّد بها، من خلال استخدام الوزارات لخدمة المحازبين وتوزيع المنافع بشكل انتقائي.

ورغم رفعه شعار "بناء الجمهورية القوية"، ساهم الحزب في تعطيل تشكيل الحكومات من خلال شروط ومطالب تفوق حجمه النيابي، ما أدى إلى إطالة أمد الفراغ السياسي. هذا السلوك يعكس أولوية المكاسب الحزبية على حساب المصلحة الوطنية، ويجعل من شعار "بناء الدولة" مجرّد أداة للمزايدة.

أداء حكومي بلا رؤية إصلاحية وإعلام استفزازي

في وزارات حساسة مثل الصحة والشؤون الاجتماعية والطاقة، اكتفى وزراء الحزب بإدارة الأزمات بدل تقديم حلول استراتيجية طويلة الأمد. هذا الأداء جعل "القوات" شريكاً موضوعياً في فشل المنظومة السياسية، وأسقط عنها أي ميزة أخلاقية في مواجهة خصومها.

أما بالنسبة للإعلام الحزبي، يعمل الجهاز الإعلامي للحزب وفق استراتيجية استفزازية تقوم على إطلاق مواقف صدامية، تحرف النقاش العام نحو سجالات طائفية وتغذّي الانقسام. كما ينزلق أحياناً إلى خطاب الكراهية الذي يستهدف الرموز والمعتقدات الدينية للطوائف الأخرى، ما يتناقض مع صورة الحزب "المدني" التي يسوّقها في الغرب. وإلى جانب ذلك، يُقدَّم زعيم الحزب سمير جعجع في صورة القائد المعصوم، ما يعكس بنية تنظيمية غير ديمقراطية ومركزية القرار.

الارتباط الخارجي والتماهي الخطابي مع إسرائيل

يحظى الحزب بدعم سياسي ومالي من الولايات المتحدة والسعودية، ما يمنحه نفوذاً يتجاوز حجمه المحلي، لكنه في الوقت نفسه يجعله طرفاً وظيفياً في صراعات إقليمية. هذا الارتباط يضعه في موقع المستورد للأزمات الإقليمية إلى الداخل اللبناني، ويقوّض أي دور له كقوة جامعة. كما أن الرهان الغربي والسعودي عليه كزعيم للمعسكر المناهض للمقاومة هو رهان محفوف بالفشل، نظراً لافتقاره إلى القبول الوطني الواسع.

يتطابق خطاب "القوات" تجاه المقاومة مع الرواية الإسرائيلية التي تدعو إلى نزع سلاحها، ما يجعل الحزب عملياً جزءاً من استراتيجية العدو. هذا الموقف ليس وليد اللحظة، بل امتداد لتحالف تاريخي قديم، ويؤدي في المحصلة إلى خدمة مصالح إسرائيل على حساب المصلحة اللبنانية، خاصة في ملفات الحدود والموارد الطبيعية.

إن تحليل الركائز التي يقوم عليها حزب "القوات اللبنانية" يكشف عن بنية معقدة، تبدو قوية ظاهرياً، لكنها مليئة بالتناقضات ونقاط الضعف الجوهرية. تاريخها الدموي وتحالفها مع العدو يقوضان شرعيتها الوطنية. ممارستها السياسية تفضح زيف خطابها الإصلاحي. استراتيجيتها الإعلامية تكشف عن طبيعة إقصائية ومؤججة للفتن. ارتباطها الخارجي يجعلها أداة في صراعات تتجاوز المصلحة اللبنانية. وأخيراً، فإن تماهي خطابها مع خطاب العدو الإسرائيلي يضعها في موقع الخصم الموضوعي لمفهوم السيادة الحقيقية والمقاومة الوطنية. إن فهم هذه الموجبات التحليلية هو المدخل الوحيد لأي قراءة نقدية صحيحة لهذا الكيان السياسي الإشكالي في تاريخ لبنان المعاصر.





روزنامة المحور