لم تنتهِ حرب 2024 بانتهاء المعارك على الحدود الجنوبية، بل فتحت فصلًا سياسيًا جديدًا في لبنان، حيث تداخلت إرادة القوى الدولية والإقليمية مع توازنات الداخل اللبناني الهشة. في المشهد الجديد، صعد قائد الجيش جوزاف عون إلى سدة الرئاسة، وتولّى نواف سلام رئاسة الحكومة، في تسوية حملت بصمات أمريكية–سعودية واضحة، لكن بموافقة الثنائي الوطني ذلك حرصاً منه على إنجاح العهد، وعودة الاستقرار، وبناء الدولة، بالطبع موافقة الثنائي كانت ضمن تسوية ووعود والتزامات سمعها من رئيس الجمهورية وعلى رأسها إعادة الإعمار، والعمل على وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وانسحاب الاحتلال من النقاط الخمس، وإطلاق الأسرى، ومن ثم البدء بالحوار حول استراتيجية الدفاع الوطني (وليس نزع السلاح).
وللمرة الأولى منذ عقود، غابت عبارة "الجيش، الشعب، المقاومة" عن البيان الوزاري، لتحل محلها صيغة "الجيش والشعب"، في إشارة إلى نية واضحة لدى الحكومة الجديدة بحصر السلاح بيد الدولة وفق التفسير الأمريكي–الإسرائيلي-السعودي لقرار مجلس الأمن 1701.
لكن ما بدا للبعض خطوة في مسار الدولة، كان محاولة لإقصاء المقاومة من المعادلة الوطنية، في ظل تعقيدات داخلية وخارجية تجعل من نزع السلاح معركة سياسية وأمنية طويلة الأمد.
معوّقات نزع السلاح: أكثر من مجرد خلاف سياسي
إن الحديث عن نزع سلاح حزب الله لا يُختزل في قرار حكومي أو بيان وزاري لا سيما ان القرار الذي صدر عن الحكومة غير ميثاقي بعد غياب المكون الشيعي وخروج وزرائه الخمسة من الاجتماع وفق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، بل هو مواجهة مع شبكة معقّدة من الحقائق السياسية والعسكرية والاجتماعية. فالمقاومة اليوم ليست كيانًا معزولًا يمكن تفكيكه بضغط دبلوماسي أو اتفاق داخلي، أو تهديد عسكري، بل هي مجتمع مقاوم، وجزء كبير من النسيج السياسي والطائفي اللبناني.
إن أي محاولة لفرض نزع السلاح بالقوة تحمل خطر إعادة البلاد إلى أجواء الحرب الأهلية، وهو شبح لم يغب عن ذاكرة اللبنانيين منذ 1975 وحتى 1990. كما أن غياب استراتيجية دفاع وطنية متوافق عليها يجعل النقاش حول بديل السلاح أمرًا معلقًا. يضاف إلى ذلك استمرار التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية، التي تمنح المقاومة مبررًا استراتيجيًا للاحتفاظ بترسانتها، ما يجعل مشروع نزع السلاح أقرب إلى تحدٍّ بنيوي شامل لا مجرد إجراء سياسي.
موقف الحزب والخطوط الحمراء
منذ ما بعد الحرب، حسم حزب الله موقفه باعتبار أن تسليم السلاح يعني تسليم لبنان لإسرائيل والولايات المتحدة. السلاح بالنسبة له خط أحمر، خاصة في ظل المخاطر المتزايدة القادمة من الجنوب حيث التهديد الإسرائيلي المستمر، ومن الشرق عبر الحدود السورية حيث تنشط مجموعات مرتبطة بـأبو محمد الجولاني.
ومع ذلك، يضع الحزب السلم الأهلي في لبنان كخط أحمر موازٍ، مؤكدًا أنه لن ينجرّ إلى مواجهة داخلية إلا إذا فُرضت عليه مواجهة وجودية. وفي هذه الحالة، يرى أن القرار النهائي في يد الحكومة اللبنانية: إما أن تحافظ على السلم الأهلي، أو أن تواصل إجراءاتها في ملف السلاح بما قد يؤدي إلى انفجار داخلي وانهيار شامل، تكون إسرائيل المستفيد الأول منه.
المواقف الداخلية والخارجية: خطوط تماس سياسية
على الساحة الداخلية، يقف حزب الله بموقف حاسم يرفض مسألة نزع السلاح، معتبرًا أن هذا الملف جزء من صراع وجودي مع إسرائيل لا يخضع للمساومة. إلى جانبه، تتخذ حركة أمل موقفًا معارضًا لقرار الحكومة، لكن من دون تحريك الشارع أو الانخراط في مواجهات ميدانية، ما يعكس رغبة في تجنب التصعيد الداخلي.
في المقابل، تصطف أحزاب مثل القوات اللبنانية وحزب الكتائب وأيضاً التيار الوطني الحر وقوى سياسية أخرى خلف مطلب حصر السلاح بيد الدولة، انسجامًا مع الطرح الأمريكي والسعودي. على الصعيد الخارجي، تدفع واشنطن والرياض بقوة نحو نزع سلاح المقاومة، بل القضاء الكامل على حزب الله بكافة مستوياته العسكرية والسياسية والمالية والاجتماعية والتربوية وغيرها، حتى لو أدى ذلك الى تقسيم الجيش وتدمير البلد وفق ما نُقل عن مسؤول سعودي في حديثه لسفراء عرب في القاهرة. أما طهران، فترى المقاومة ضرورة للبنان لحمايته من الخطر والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وترفض أي مساس بالسلاح، وتسليم لبنان للأمريكيين والإسرائيليين، وهذا هو فحوى رسالة أمين مجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني خلال زيارته الى بيروت، على ان إيران لن تسمح لأمريكا والسعودية ان تعبثا بالساحة اللبنانية كيفما تشاء، ما يضيف بُعدًا إقليميًا حادًا للصراع الداخلي.
السيناريوهات المحتملة: لبنان في انتظار اللحظة الفاصلة
1- المشهد اللبناني بعد آب 2025 يبدو كرقعة شطرنج جامدة، حيث الأطراف جميعها متصلبة في آرائها، لكن أحدًا لا يملك القدرة على تحقيق "كش ملك" في المدى المنظور. لا سيما انه نُقل عن قائد الجيش رودولف هيكل المكّلف بإعداد خطة لنزع السلاح مع نهاية آب الحالي، انه لن يستخدم القوة ولن يُعرّض السلم الأهلي للخطر، وفي ظل الموقف الحازم والحاسم من قبل حزب الله وحركة أمل فإن السيناريو الأكثر احتمالًا هو استمرار الجمود الحالي، مع بقاء السلاح، بانتظار متغيرات إقليمية قد تعيد خلط الأوراق. مع عدم استبعاد قيام أحد الأجهزة الأمنية (بضغط خارجي) باختبار موقف الحزب وارسال دورية لمداهمة مخزن للسلاح هنا او هناك ما سيؤدي الى صدام حتمي.
2-الاحتمال الثاني خيار المواجهة الداخلية المباشرة، فهو الأقل احتمالًا، نظرًا لخطورة تداعياته وانعدام الاستعداد والرغبة لدى اللبنانيين او غالبيتهم لخوض حرب جديدة باستثناء جوقة عوكر. وهناك أيضًا إمكانية أن تأتي تسوية كبرى من خارج الحدود، عبر تفاهمات إقليمية كبرى أو عبر مبادرة دولية، تعيد رسم المعادلة الأمنية في لبنان.
في كل الأحوال، يبقى لبنان عالق بين ميزان قوى داخلي متشابك، وإرادات خارجية تسعى لإعادة صياغة دور لبنان في خريطة المنطقة لمصلحة إسرائيل، ما يجعل ملف السلاح ورقة تفاوض طويلة الأمد، لا معركة آنية تُحسم بقرار أو اجتماع.
إن لبنان بعد حرب "أولي البأس" يعيش على إيقاع معادلة دقيقة: حكومة تميل نحو رؤية أمريكية–سعودية، ومقاومة متجذّرة في المجتمع والسياسة، تدعمها واقع ميداني لا يمكن تجاوزه وقاعدة شعبية واسعة. وبين ضغوط الخارج وتعقيدات الداخل، فإن سلاح المقاومة سيبقى عنصرًا ثابتًا في المعادلة اللبنانية.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.
mshamass110@yahoo.com