الثلاثاء 19 آب , 2025 02:19

من المجاملات إلى الإملاءات: تحوّل الخطاب الأميركي تجاه لبنان

توم براك

شهد الخطاب الأميركي الموجّه إلى لبنان خلال شهري تموز وآب 2025 تحوّلات لافتة في المضمون والأسلوب، عكست إعادة تموضع لواشنطن في مقاربتها للملف اللبناني. ففي حين بدا خطاب تموز أقرب إلى المجاملة الدبلوماسية واللغة الناعمة، جاء خطاب آب أكثر صلابة ووضوحًا في ربط مستقبل لبنان السياسي والاقتصادي بشروط محدّدة، على رأسها نزع سلاح حزب الله وإشراك "إسرائيل" في أي عملية تسوية أو إعادة إعمار. هذه النقلة من الخطاب الموارب إلى الخطاب المباشر تعبّر عن مرحلة جديدة في التعاطي الأميركي، تجعل من أي أفق اقتصادي أو سياسي مرهونًا بإعادة صياغة التوازنات الداخلية والخارجية وفق منظور أميركي – إسرائيلي مشترك.

التحوّل في لهجة الخطاب

اتسم خطاب تموز 2025 بالمجاملات والعبارات المليئة بالمديح للبنان، وجرى التركيز فيه على تحميل الداخل اللبناني مسؤولية أزماته، مع تكرار صور نمطية مثل "لبنان لؤلؤة المتوسط" و"سويسرا الشرق". لكنه حمل في العمق تهديدًا مبطنًا بأن واشنطن لن تتدخل لإنقاذ لبنان ما لم يتخذ خطوات داخلية ضد حزب الله.

أما خطاب آب 2025 مثّل نقطة فاصلة، إذ خفّت المجاملات وحلّت محلها لغة أكثر مباشرة وصلابة، تربط بين الإعمار والازدهار من جهة ونزع السلاح وإشراك إسرائيل من جهة أخرى. لم تعد واشنطن تخاطب اللبنانيين بوصفهم وحدهم مسؤولين عن أزماتهم، بل أدرجت "إسرائيل" في صميم أي معادلة مستقبلية.

- نزع سلاح حزب الله كممر إلزامي: قدّم براك نزع سلاح حزب الله بوصفه شرطًا لا بد منه. ورغم محاولته تغليف هذا الشرط بصيغة إيجابية، كأن يقول إنه "من أجل مصلحة الطائفة الشيعية لا ضدها"، إلا أن الرسالة الضمنية واضحة: إمّا قبول هذا المسار، أو تحمّل مسؤولية حرمان لبنان من أي فرصة للنهوض الاقتصادي والسياسي. هنا يتحوّل ملف السلاح من قضية سيادية داخلية إلى أداة ابتزاز إقليمي ودولي.

- الإعمار والاقتصاد كأداة ابتزاز: أبرز ما تضمّنه خطاب آب هو ربط عملية إعادة الإعمار والتمويل الدولي بمسار سياسي – أمني محدّد. فبراك قال صراحة إن لا مساعدات ولا مشاريع إعمار خارج البوابة الأميركية – الإسرائيلية. هذه الصياغة تضع لبنان أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا القبول بالتطبيع ونزع السلاح مقابل الوعود الاقتصادية، أو البقاء في دائرة الانهيار والعزلة.

- "إسرائيل" من طرف مراقب إلى شريك إلزامي: في خطاب تموز، قُدّم الكيان بوصفه "يريد السلام" وبقي موقعه هامشيًا. لكن في آب، جرى إدخاله مباشرة في قلب أي تسوية، بحيث لم يعد الحديث عن مستقبل لبنان ممكنًا دون مشاركته. أخطر ما في ذلك هو تحويل التعاون الاقتصادي إلى مدخل عملي للتطبيع، وجعل الاستقرار الداخلي في لبنان مرتبطًا إلى حد كبير بموقف "تل أبيب".

- التلاعب بمفهوم "نزع السلاح": طرح براك سؤالًا تقنيًا في الظاهر: "ما معنى نزع السلاح وكيف يُطبق؟". غير أن هذا السؤال يخفي تهديدًا مبطّنًا، إذ يعني أن الملف لن يُغلق بالكامل حتى بعد أي تسوية، بل سيظل مفتوحًا كورقة ضغط دائمة يمكن استغلالها في كل محطة سياسية مقبلة.

- لغة التهديد المغلّف بالفرص: رغم تأكيد براك أنه لا يمارس "تهديدات أو ضغوط"، إلا أن خطابه كان مليئًا برسائل الضغط الناعمة. فقوله مثلًا: "إذا لم يُنفذ القرار، سيفوت حزب الله فرصة مهمة" يعني أن لبنان كلّه سيُعاقب إذا لم يُذعن. بذلك تحوّلت "الفرص" الموعودة إلى تهديدات مستترة، تجعل حزب الله واللبنانيين أمام معادلة: الانخراط في المسار الأميركي – الإسرائيلي أو مواجهة عزلة وانهيار أكبر.

التحولات الجوهرية بين الخطابين

في تموز: واشنطن قدّمت نفسها مراقبًا من بعيد، محمّلة اللبنانيين المسؤولية، ومتنصّلة من أي ضمانات أمنية أو اقتصادية.

في آب: واشنطن نصّبت نفسها شريكًا في الحل، لكن وفق شروط واضحة: إشراك إسرائيل، ربط الازدهار بنزع سلاح حزب الله، والتلويح الدائم بأن أي تلكؤ سيؤدي إلى معاقبة لبنان ككل.

تكشف قراءة تصريحات توم براك بين تموز وآب 2025 عن انتقال الخطاب الأميركي من التلميح إلى التصريح، ومن لغة المجاملات إلى لغة الإملاءات. لم يعد الملف اللبناني شأناً داخليًا بحتًا في نظر واشنطن، بل أصبح مرتبطًا بشكل مباشر بمصالح "إسرائيل" وموقعها في المعادلة. وهكذا، تحوّل الوعد بالازدهار إلى أداة ضغط، وتحولت "الفرص" إلى غطاء للتهديد، فيما جرى وضع حزب الله، والطائفة الشيعية من ورائه، ولبنان كله أمام خيارين لا ثالث لهما: الانخراط في مشروع أميركي – إسرائيلي أو مواجهة العزلة والانهيار المستمر.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور