في لحظة سياسية فارقة تتقاطع فيها الضغوط الخارجية مع الانقسامات الداخلية، جاء قرار الحكومة اللبنانية الأخير بشأن تسليم سلاح المقاومة ليشكّل نقطة تحوّل خطيرة في مسار الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. فالقرار لا يعبّر فقط عن انحراف عن الثوابت الوطنية والميثاقية، بل يكشف عن اصطفاف واضح خلف الرغبات الأمريكية والمطامع الإسرائيلية والضغوط السعودية، في تجاهل صارخ لدروس التاريخ القريب والبعيد. وبينما تروّج الحكومة لضمانات واهية، تؤكد الوقائع أن هذه الخطوة تفتح الباب أمام سلسلة من التنازلات التي قد تنتهي بتقويض ركائز القوة الوطنية، وإعادة إنتاج سيناريوهات الاحتلال التي عرفها لبنان في محطات مفصلية سابقة.
فرض الوقائع وتوسيع حدود الهيمنة
تمارس الولايات المتحدة سياسة فرض الوقائع بالقوة، وتملك سجلاً حافلاً بنقض الاتفاقات وعقد الصفقات الجانبية، كما ظهر في تعاملها مع ملفات عديدة، من شنّ الحرب على إيران أثناء المفاوضات، إلى تقلبات سياسة إدارة ترامب، وعدم احترام اتفاقات وقف إطلاق النار، وإبرام تفاهمات سرية مع إسرائيل، فضلاً عن تكرار إعلان وقف العدوان على غزة دون تنفيذ، وفرض العقوبات على السلطة الفلسطينية ومحكمة العدل الدولية. ولعل ما قاله السيناتور ماركو روبيو بأن "أمريكا نجحت في بناء دولة قوية لمواجهة حزب الله" يكشف خلفية هذا القرار.
أما الموقف الإسرائيلي، فيستند إلى نهج تاريخي قائم على الاحتلال والتوسع، تؤكده التجارب السابقة، كما حدث في سوريا حيث قوبلت عروض السلام بالقصف والتوسع الاستيطاني. وقد أعلن الوزير بتسلئيل سموترتش صراحةً رفض الانسحاب من النقاط الخمس، فيما أشار وزير الطاقة إيلي كوهين إلى نية تفكيك اتفاق ترسيم الحدود البحرية، ما يعكس رغبة واضحة في إعادة صياغة الواقع الميداني لمصلحة الكيان. وتكشف مؤشرات متعددة عن احتمال سعي إسرائيل لإحداث تغيير ديموغرافي في الجنوب اللبناني لإلغاء أي بيئة حاضنة للمقاومة. وتقوم استراتيجيتها، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، على سياسة "الخطوة خطوة"، بدءاً من السيطرة على جنوب الليطاني، ثم التمدد شمالاً، ونزع السلاح الثقيل والخفيف في كل لبنان، وصولاً إلى السيطرة على الغاز البحري.
الخضوع الرسمي وخطر التفريط بالقوة الوطنية
في المقابل، أظهر الموقف اللبناني الرسمي انحرافاً خطيراً عن الميثاق الوطني والدستور، بما يهدد وجود طائفة لبنانية بكاملها، متجاهلاً هواجس اللبنانيين الذين عانوا من العدوان الصهيوني منذ 1948. الأسوأ أن الورقة الحكومية اكتفت بالوعد بـ"توبيخ" الكيان إذا خرق الاتفاق، ما يجعل الالتزام به شكلياً وغير ملزم. إدراك العدو لهذه الثغرة سيشجعه على تصعيد مطالبه، خاصة مع غياب أي نقاش لاستراتيجية دفاعية وطنية، والارتهان لوثيقة أمريكية–إسرائيلية. والتاريخ القريب يثبت أن المقاومة، منذ 1982، قدّمت حلولاً حمت البلاد، بينما لم يؤدِ الخضوع إلا إلى مزيد من الخضوع. وقبول الحكومة بورقة براك دون تعديل يعني عملياً تسليم القرار الوطني.
البديل لحماية لبنان لا يقوم على تقديم التنازلات، بل على الاستفادة من دروس التاريخ، الذي أثبت أن إسرائيل لا تردعها إلا القوة. بين 1948 و1969، ارتكب العدو 11 مجزرة و42 عملية خطف و22 توغلاً و12 عملية تدمير للبنى التحتية، ما يؤكد أن الردع هو السبيل الوحيد لحماية البلاد. ومن هنا، يجب رفض أي دور يخدم أمن العدو، وإظهار تماسك داخلي، كما حدث في تجربتي التحرير عام 2000 في عهد إميل لحود، وترسيم الحدود البحرية في عهد ميشال عون، حين تحقق الإنجاز بالتنسيق مع المقاومة. أما النهج الحالي، فهو يهدد بطيّ صفحة التحرير والترسيم وفتح الباب أمام إعادة تسليم البلاد. والتاريخ يعيد نفسه، كما في اتفاق 17 أيار 1983، حين فُرضت تسوية مع العدو ولم يخرج الاحتلال إلا بالقوة بعد 18 عاماً من القتال.
تتضح الخديعة اليوم في استعداد الدولة للتنازل عن الاتفاق في وقت يعلن فيه قادة العدو نواياهم بلا مواربة. سموترتش يرفض الانسحاب، وبراك يؤكد غياب أي ضمانات أو ضغط على إسرائيل، فيما ورقته الحكومية تكتفي بـ"توبيخ" الكيان عند الخرق. وتاريخ الاحتلال يثبت أن المطامع الصهيونية في الجنوب راسخة، وأن الولايات المتحدة تملك سوابق في التنصل من التزاماتها. ومع تهديد وزير الطاقة الإسرائيلي بإلغاء اتفاق ترسيم الحدود، يبدو أن العدو ماضٍ في إعادة صياغة الوقائع لمصلحته، غير آبه بأي تفاهمات أو التزامات سابقة، بينما تفتح سياسة الخضوع اللبنانية الطريق أمامه لتحقيق أهدافه الاستراتيجية.
الكاتب: غرفة التحرير