الأربعاء 25 حزيران , 2025 12:49

ما بعد الصبر الاستراتيجي: قراءة تحليلية في نتائج العدوان الاسرائيلي على إيران

على الرغم من أن وقف إطلاق النار بين إيران وكيان الاحتلال لا يزال هشاً، خاصة وأن إسرائيل لا توقف حرباً إلا لتعود بأساليب مختلفة، إلا أن المؤشرات الأولية للمواجهة التي دامت 12 يوماً تشير إلى تحوّل لافت في قواعد الاشتباك ومفاعيلها الاستراتيجية. إيران، التي خاضت أول مواجهة مباشرة بهذا الحجم مع الكيان، لم تخرج من المعركة بتكلفة صافية، بل راكمت جملة من المكتسبات العسكرية والسياسية، داخلياً وخارجياً، تؤهّلها لإعادة التموضع كلاعب إقليمي قادر على فرض معادلات جديدة. ما يلي محاولة لتفكيك أبرز النتائج وفق تسلسلها الموضوعي.

تقييم الأداء العسكري خاصة السلاح المصنوع محلياً: شكّلت الحرب ميداناً مفتوحاً لاختبار نوعي لتوازن الردع الإيراني على مستوى الصناعات العسكرية الذاتية، لا سيما أن إيران اعتمدت في هجماتها على منظومات صاروخية ومسيّرة مطوّرة محلياً، بعضها يدخل لأول مرة الميدان. هذا الاستخدام الميداني تجاوز البعد التقني، إلى  تكريس مشهدية عسكرية تعكس قدرة على المبادرة لا الاكتفاء برد الفعل.

هذه الحرب مكّنت طهران من جمع معطيات استراتيجية حول فاعلية تسلسل إطلاق النيران، نسبة الاختراق الدفاعي، والتكامل بين وحدات الطيران والقيادة والتحكم، في ظل خصم يستخدم أحدث التقنيات التكنولوجية والعسكرية على مستوى المنطقة. كل ذلك يساهم في إعادة هندسة منظومة الردع وفق سيناريوهات أكثر تعقيداً، وبأقل اعتماد على الخارج، بعد تقييم الاحتياجات ومكامن النقص، مثل أسلحة الدفاع الجوي لانتزاع ورقة التفوق هذه من الكيان.

تفكيك البنية الأمنية للخرق: لم تكن الحرب مواجهة ميدانية فقط، بل انكشفت معها طبيعة الاختراقات الداخلية، سواء عبر العمل الاستخباري المباشر أو عبر الأدوات الناعمة التي لجأ إليها الموساد خلال السنوات الماضية. بالتالي، استفادت طهران من هذا الانكشاف لتفكيك جزء من البنية التخريبية، ورصد أنماط التسلل الاستخباري، وصولاً إلى كشف مسارات تجنيد وتخطيط كانت نشطة في العمق الداخلي.

هذا لا يُعدّ مجرد نجاح أمني طارئ، بل يدخل في إعادة تعريف إدارة الخطر داخل الدولة، وتنشيط مفاصل الوقاية الهيكلية. الحرب لم تفضِ فقط إلى كشف عملاء أو خلايا، بل أنتجت معرفة معمّقة بمسار الفعل التخريبي وسبل عزله وتحجيمه، في لحظة كانت فيها البلاد عرضة لارتدادات مزدوجة: من الخارج ومن الداخل في آن.

 

المفارقة اللافتة في هذه الحرب أن الجبهة الداخلية الإيرانية، التي عادة ما يُنظر إليها كخاصرة رخوة في لحظات التصعيد، بدت أكثر تماسكاً. بعض القوى السياسية المعارضة والتي عُرفت بحدة انتقاداتها للنظام، اختارت الاصطفاف إلى جانب الدولة في لحظة عدوان خارجي. هذا الاصطفاف ليس دليلاً على تلاشي التناقضات، بل على وجود كتلة وطنية صلبة تعتبر أن مواجهة الخارج تتقدم على الخلافات الداخلية.

المواجهة أظهرت أيضاً أن النسيج الاجتماعي الإيراني -رغم ضغوط العقوبات والأزمات الاقتصادية- لم ينفلت أو يتصدع، بل عبّر عن نفسه بخطاب وطني متماسك في مواجهة التهديد، ما يؤشر إلى عمق الهوية السيادية في بنية الدولة والمجتمع.

الحضور الاقليمي: بعد عقود من السرديات المبنية بهدف تشويه صورة إيران في العالمين العربي والاسلامي، لم يستطع الاعلام التقليل من أهمية ما جرى، خاصة وأن حجم الدمار في إسرائيل كان ينقل مباشرة على الهواء. هذه المواجهة الميدانية قُرئت في الشارع العربي باعتباره انعكاساً لشجاعة استراتيجية وقرار سيادي.

اذ أن الصواريخ التي انطلقت من الأراضي الإيرانية، إلى العمق الاستراتيجي لكيان الاحتلال وحطمت منظومة الردع، رسمت صورة جديدة لإيران كدولة لا تكتفي بالبيانات ولا تفوّض أحداً عنها، بل تخوض المواجهة إن اقتضى الأمر. هذه الصورة تعيد ضبط مكانة إيران في الوعي الشعبي الإقليمي، بعيداً عن حملات التشويه الطويلة التي حاولت فصلها عن قضايا المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

إعادة تعريف التوازن الإقليمي: من أبرز التحولات التي أفرزتها الحرب، انتقال إيران من موقع الدفاع إلى تثبيت معادلة ردع متكاملة، مبنية على قرار مركزي وغطاء شعبي وسياسي واسع. هذا الانتقال لا يعني البحث عن حرب دائمة، بل امتلاك الأدوات الكافية لمنع الحرب عبر القدرة على إلحاق ضرر نوعي بأي جهة معتدية. 

في هذا السياق، يمكن قراءة الصمت الأميركي النسبي أو التقييد الغربي للحركة الإسرائيلية في الأيام الأخيرة من المواجهة، باعتباره إدراكاً للخط الأحمر الذي باتت ترسمه إيران بنفسها، لا بالنيابة عن أحد. وهو ما سيترك أثراً ملموساً في تقديرات الخصوم عند التفكير بتوسيع نطاق الضربات أو استهداف المنشآت الحساسة. وقد يكون استهداف قاعدة العديد الأميركية الأمثل الأبرز على ذلك، وهو انتقال نوعي بمستوى المواجهة.

المفاوضات النووية بعد الحرب: ثبات ايران في هذه الحرب لا يمكن عزله عن سياق أوسع يتعلق بتموضع الدولة في النظام الإقليمي. في سياق مفاوضات الملف النووي، مثلاً، قد تنتقل طهران من كونها طرفاً يجيد إدارة النفس الطويل إلى آخر يبرع أيضاً بالرد المباشر اذا تطلب الأمر.

كما أن تمسكها بخطوطها الحمراء من رفضها نقاش المنظومة الصاورخية إلى تمسكها بحقها بتخصيب اليورانيوم، أكد أن الأمن السيادي ليس جزءاً من سلة التفاوض، ولن يكون قابلاً للمقايضة حتى في أقسى ظروف التصعيد.

هندسة علاقات دولية أكثر فعالية: أحد الأبعاد التي ستسعى إيران لاستثمارها، هو توظيف الأداء العسكري والسياسي خلال المواجهة في إعادة ترسيم علاقاتها الدولية. فالدول التي راقبت الحرب باتت ترى في طهران شريكاً يصنع موازين القوى ولا يكتفي برد الفعل. هذا الإدراك سيمنح إيران فرصة لتوسيع قنوات التفاهم الاستراتيجي مع شركاء جدد، وبشروط أكثر توازناً، خاصة وانها كانت بقيت ملتزمة بالقانون الدولي وتعهداتها الدولية رغم الجرائم التي مورست بحقها، وهذا ما يعزز من ثقة المجتمع الدولي أيضاً.

لا يمكن اعتبار هذه الحرب محطة منفصلة عن السياق الإقليمي، انما تحول استراتيجي يؤسس لمرحلة جديدة في تموضع إيران الإقليمي والدولي. فعلى الرغم من الخسائر التي مُنيت بها وعلى مختلف الأصعدة خاصة وأنها دولة محاصرة منذ عقود، لكنها أثبّتت نفسها كدولة تملك القرار، وتعيد رسم خطوط الاشتباك، وتفرض على إسرائيل والمحور الغربي، اعادة تقييم المواجهة مع إيران من منطلق أنها دولة اقليمية وشن الحرب عليها قد يشعل المنطقة. فإيران خرجت من الحرب وهي أكثر إدراكاً لنقاط ضعفها، وأكثر ثقة في نقاط قوتها.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.



دول ومناطق


روزنامة المحور