منذ نهاية الحرب الباردة، شكّل الشرق الأوسط إحدى ركائز الحسابات العسكرية الأميركية. وعلى الرغم من التحولات العميقة في الإقليم والعالم، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بانتشار عسكري كثيف يشمل نحو 40 ألف جندي موزعين على عشرات القواعد في المنطقة. ومع تصاعد وتيرة وتبدل أولويات واشنطن الجيوسياسية، تبرز الحاجة إلى مراجعة هذا الانتشار ومدى فاعليته في تحقيق أهدافه الإستراتيجية.
في حزيران/ يونيو عام 2025، شاركت واشنطن بالعدوان الاسرائيلي على إيران عبر استهداف منشآت نووية إيرانية باستخدام قاذفات بعيدة المدى وصواريخ كروز أطلقت من غواصات في الخليج. المثير للانتباه أن الطائرات لم تنطلق من القواعد الأميركية في الشرق الأوسط، أو جرى التعتيم على ذلك، كما كشفت صحيفة واشنطن بوست الأميركية. وأشارت الصحيفة إلى أن "القوات البالغ عددها 40 ألفاً، والمعدات العسكرية التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، كانت حينها بلا جدوى". مضيفة أن هذا الوجود تحوّل إلى عبء فعلي بعد 36 ساعة عندما استهدفته إيران بصواريخ نحو قاعدة العديد في قطر، ما أدى إلى إخلاء الطائرات وإعادة تموضع السفن في عرض البحر.
هذا الاستهداف أعاد طرح تساؤلات قديمة بشأن مدى فعالية التمركز العسكري الأميركي في المنطقة. فالقواعد الثابتة، رغم ضخامتها وتكلفتها، تبقى عرضة للقيود السياسية من الدول المضيفة، وأهدافاً مكشوفة في بيئة إقليمية تتنامى فيها القدرات الصاروخية وغير التقليدية.
ورغم ذلك، لا تظهر واشنطن مؤشرات على نية الانسحاب الكامل، اذ أن أي فراغ ممكن أن تخلفه في المنطقة، سيكون على أحد اللاعبين الاقليميين أو الدوليين ملؤه. وعلى ما يبدو، فإنها تعيد تشكيل وجودها وتوزيع بنيتها التحتية العسكرية. فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز في تقرير نُشر في 26 حزيران/يونيو الماضي عن وجود قاعدة أميركية جديدة غرب السعودية تُعرف باسم "منطقة الدعم اللوجستي جنكينز" (L.S.A. Jenkins) قرب ساحل البحر الأحمر، على بعد حوالي 20 ميلاً من الساحل. بحسب الصحيفة، تهدف القاعدة إلى توفير موقع لوجستي بعيد عن مدى الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية، وتدعم قواعد أميركية أخرى في المنطقة، من العراق وسوريا إلى الخليج.
تكمن أهمية الموقع الجغرافي للقاعدة في كونه خارج مدى الصواريخ الإيرانية القصيرة المدى، ما يُجبر أي خصم على استخدام صواريخ متوسطة المدى، وهي أقل دقة وتمنح أنظمة الدفاع الأميركية وقتاً أطول للتصدي لها. حيث شهدت القاعدة توسعاً كبيراً منذ مطلع عام 2024، مع ظهور منشآت جديدة، وطرق معبّدة، وصناديق ذخيرة توحي بوجود بنية صاروخية، وفق صور أقمار صناعية.
لا تقتصر الخطة الأميركية على "جنكينز"، بل تشمل أيضاً مواقع لوجستية إضافية في مطاري الطائف وجدة، حيث يُخزَّن الوقود والذخيرة. وتفيد وثائق عسكرية بأن التوسعة قد تشمل لاحقاً مرافق صيانة وترفيه لعناصر الجيش.
هذا التوجه يكشف بوضوح عن إدراك أميركي لمخاطر التمركز المكشوف في مواجهة خصوم مثل إيران أو صنعاء. وبحسب مدير شؤون الشرق الأوسط في معهد برايان كارتر، "أمريكان إنتربرايز"، فإن الدافع الأولي وراء هذه التوسعات هو "محاولة دفع بعض البنية التحتية العسكرية الأميركية خارج نطاق الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية".
لكن هذه الإجراءات، رغم طابعها الوقائي، لا تحل المشكلة الجوهرية: اذ إن دعم هذا الوجود يكلف دافعي الضرائب الأميركيين مليارات الدولارات سنوياً، في وقت تتحول فيه المنطقة تدريجياً إلى ساحة اشتباك مع لاعبين اقليميين أثبتوا قدراتهم على المواجهة وبأوراق قوة مختلفة كإيران.
تجربة حرب الـ 12 يوماً، كشفت عن هشاشة بنية الانتشار الأميركي، وفرضت إعادة نظر في شكل التمركز. فبدل توزيع واسع لقوات يمكن شلّ حركتها سياسياً أو عسكرياً، تبدو الحاجة ملحة لنموذج أكثر ديناميكية، يعتمد على التدخل عند الضرورة لا على التواجد المستمر.
إن التوسع الجديد في غرب السعودية هو ردّ تكتيكي على "التهديد"، لكنه لا يبدد الشكوك حول مدى انسجام هذا الوجود العسكري مع الأهداف الأميركية الأوسع في المنطقة. في حين أن الادارات الأميركية المتعاقبة والتي ترى في الصين عدوها الأول، وتتسع مجالات أمنها القومي لتشمل المهاجرين من المكسيك وضم كندا كما بنما وتنظر بعين الريبة الدائمة إلى حديقتها الخلفية، قد تفتح مرة أخرى النقاش حول جدوائية انتشارها بهذا الشكل في المنطقة وسط عالم متغير، وهو الحديث الذي بدأ بالفعل، وكان استهداف العديد ساحة نزال حقيقية داخل أروقة البيت الأبيض.