الجمعة 26 أيلول , 2025 03:41

من حارة حريك إلى غزة: معركة القائد الذي جسّد وحدة الساحات بدمه

تمرُّ الذكرى الأولى لاستشهاد السيد هاشم صفي الدين، ليس فقط مناسبة لرثاء قائد، بل هي لحظة للتأمل في سردية مقاومة متجددة، وفي تشريح جغرافيا للصراع أعاد رسمها هذا الرجل بدمه. فصفي الدين لم يكن مجنداً عادياً في معركة عسكرية ضيقة، بل كان مفكراً استراتيجياً ومثقفاً عضوياً، جسّد بمشواره الحياة مفهوم "وحدة الساحات" ليس كشعار سياسي، بل كحقيقة وجودية. اغتياله في الضاحية الجنوبية لبيروت في أكتوبر 2024 لم يكن حدثاً منعزلاً، بل كان الفصل الأخير من مسيرة ستة عقود نسجت خيوطها بين النجف وبيروت وغزة، معلنة أن حدود المعركة مع المشروع الصهيوني لم تعد حدوداً جغرافية، بل هي حدود إرادة وأيديولوجيا.

في وقت تصبح فيه المدينة والذاكرة، الجغرافيا والتاريخ، أدوات تتقاطع فيها السياسة مع السرد، يبرز موت القائد كحدثٍ يُعيد تشكيل الخطاب الوطني ويعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والجماعة. استشهاد السيد هاشم صفي الدين، في مشهدٍ يمزج بين الحزن والخطاب، هو نوع من النصّ السياسي يفرض نفسه على الذاكرة الجمعية ويعيد قراءة خيوط الصراع بمنطقٍ آخر. من حارة حريك إلى غزة، لا نتعامل هنا مع سيرة فردية بقدر ما نتعامل مع نصّ يكتب على جثة المكان ويقرأ التاريخ من زاوية المقاومة.

أول ما يفرض نفسه هو سؤال العلاقة بين العلم الديني والفكر الاستراتيجي والسياسة الميدانية؛ ملامح هذه الثنائية—الفقه والسياسة، الحوزة والحقل—تجعل من صفي الدين شخصية متشابكة لا تُفهم بمعزل عن شبكة الأنساق الاجتماعية والثقافية التي أنتجتها. هو ليس قائداً عسكرياً فحسب، ولا عالماً دينياً معزولاً؛ بل هو عقدٌ بين ذاكرة الحوزة، خبرة النضال، ومشروع سياسي تحرّكه رؤية عن القدس والوحدة. هذه الثنائية تمنحه نوعاً من الشرعية المعنوية في مجتمعٍ يرى في الدين وإطاره المرجعيَين مصدرين للثبات وصياغة المشروع.

المثقف العضوي: من حوزة النجف إلى هندسة المقاومة

لا يمكن فصل مسيرة صفي الدين عن السياق الاستعماري الأوسع الذي شكّل وعي جيله. خروجه من بلدة دير قانون النهر في جنوب لبنان – ذلك المكان الذي طالما كان خط التماس الأول مع العدوان الإسرائيلي – إلى حوزة النجف العلمية في العراق، لم يكن رحلة للعلم الديني فحسب، بل كان بحثاً عن أدوات فهم العالم وإعادة تشكيله. في النجف، حيث تتقاطع المذاهب وتتصارع المشاريع، تشكّلت لدى صفي الدين رؤية نقدية للسلطة ولموقع المثقف الديني. لم يقتنع بأن يكون رجل دين منعزلاً في البرج العاجي للفقه، بل رأى أن الدين هو إطار للمقاومة ضد كل أشكال الهيمنة، مستلهماً في ذلك نموذج الإمام الخميني الذي حوّل الخطاب الديني إلى مشروع تحرري.

هنا، يصبح صفي الدين نموذجاً "للمثقف العضوي"، الذي يرفض الانقطاع عن قضايا مجتمعه. فدراسته للفقه والأصول لم تكن غاية في ذاتها، بل كانت أساساً لبناء خطاب مقاومة يمتلك شرعية دينية وفكرية، في مواجهة الخطاب الصهيوني الذي يحاول تزييف التاريخ والجغرافيا. توليه رئاسة المجلس التنفيذي لحزب الله كان تعبيراً عن هذه الرؤية؛ حيث حوّل المؤسسة الحزبية إلى جسد حيوي يربط السلاح بالخدمة الاجتماعية، والسياسة بالحاضنة الشعبية، مؤمناً أن المقاومة التي لا تتجذر في وجدان الناس هي مقاومة عرجاء.

سردية المكان: حارة حريك كرمز للمقاومة المتجذرة

عندما أطلق صفي الدين مقولته الشهيرة "من حارة حريك إلى غزة.. معركتنا واحدة"، لم يكن يردد شعاراً فقط، بل كان يختزل رؤية استراتيجية متكاملة. حارة حريك – ذلك الحي الشعبي في الضاحية الجنوبية لبيروت الذي أصبح قلعة للمقاومة – لم تكن مجرد موقع جغرافي، بل كانت رمزاً لتحويل الفضاء المحلي إلى قاعدة انطلاق نحو فضاءات أوسع. بهذه العبارة، كان صفي الدين يرفض منطق "تجزئة الصراع" الذي تفرضه الدولة القطرية والحدود المصطنعة، ويؤسس لسردية مضادة تجعل من الأحياء الشعبية في لبنان امتداداً طبيعياً لأزقة غزة وساحات القدس.

هذه الرؤية تجعل من استشهاده في الضاحية الجنوبية دلالة عميقة. فالمكان الذي اغتيل فيه لم يكن محايداً؛ لقد كان قلب الفضاء الذي ساهم في بنائه وحمايته. اغتياله هناك كان محاولة من العدو الإسرائيلي لتحطيم رمزية هذا المكان، لكنه في المقابل أعطى المكان بُعداً أسطورياً جديداً، أصبحت فيه حارة حريك ليست مجرد حي سكني، بل هي جزء من سجل الشهداء الذي يربط جنوب لبنان بجنوب فلسطين.

وحدة الساحات: من النظرية إلى الاستشهاد

كان صفي الدين أحد أهم المهندسين الاستراتيجيين لتحويل مفهوم "محور المقاومة" من خطاب سياسي إلى واقع عملي. رأى أن معركة غزة ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل هي اختبار لمصداقية المشروع المقاوم برمته. دوره في تنسيق العمليات بين جبهات لبنان وسوريا والعراق واليمن لم يكن تكتيكاً عسكرياً مرحلياً، بل كان تجسيداً لفكرة أن الهيمنة الصهيو-أميركية هي نظام متكامل، ولا يمكن مواجهته إلا بنظام مضاد متكامل كذلك.

في خطابه قبل استشهاده، لم يكن صفي الدين يهدد بإطلاق الصواريخ فحسب، بل كان يشرح معادلة وجودية: "الصهاينة في قوس الهبوط والمقاومة في قوس الصعود". هذه العبارة تعكس رؤية نقدية لموازين القوى، ترفض الوقوع في فخ "الضعف العربي" الذي روّجت له الأنظمة التابعة. كان يؤمن أن الزمن لم يعد في صالح المشروع الصهيوني، لأن المقاومة استطاعت أن تحوّل المعركة من صراع على الأرض إلى صراع على الزمن، حيث يصبر أحد الطرفين بينما ينهك الآخر.

جسد على طريق القدس: سردية الشهيد والمكان المفقود

استشهاد صفي الدين بعد أيام قليلة من استشهاد السيد حسن نصر الله لم يكن صدفة، بل كان تأكيداً على أن القيادة في مشروع المقاومة هي جزء من الجسد الجماعي الذي لا ينكسر بفقدان فرد، بل ينتفض أكثر. كلماته في رثاء نصر الله – " أكتب إليكم في أمض وأفجع لحظات عمري ليت الموت أعدمني الحياة ولعلّي لاحق به عما قريب شهيدًا في أثره فتستقر بذلك روحي لا أنعي نفسي ولكن لا طيّب الله العيش بعدك يا سيدي وحبيبي وروحي التي بين جنبي. يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا" – لم تكن مجرد تعبير عن حزن، بل كانت بياناً وجودياً يرفض فصل مصير القائد عن مصير القضية.

هنا، تتحول سردية الشهادة من حدث فردي إلى ظاهرة جماعية. صفي الدين، الذي جمع بين العلم الديني والفكر الاستراتيجي والقيادة الميدانية، أصبح بدمه جسراً بين الأجيال. استشهاده لم يضعف المقاومة، بل أعطاها شرعية جديدة، لأن الشعوب تدرك أن القادة الذين يقدمون أرواحهم هم الأجدر بقيادتها. لقد حوّل صفي الدين الموت من نهاية إلى بداية، وأصبح جسده – الذي سقط في حارة حريك – علامة على طريق القدس، التي تبقى الحلم الجامع لكل الساحات.

إرث المقاومة كسردية مضادة

في الذكرى الأولى لاستشهاده، يبقى هاشم صفي الدين نموذجاً للمثقف المقاوم الذي رفض أن يكون تابعاً للخطاب السائد. لقد حوّل المقاومة من فعل عسكري إلى مشروع ثقافي ينتج سرديته الخاصة، ويرفض التبعية الفكرية كما يرفض الاحتلال العسكري. رؤيته لوحدة الساحات، وتأكيده أن معركة القدس هي معركة الهوية والوجود، جعلت منه هدفاً للاغتيال، لكنها جعلت منه أيضاً أيقونة للاستمرارية.

اليوم، ونحن نرى استمرار المقاومة في غزة ولبنان واليمن وإيران، ندرك أن دم صفي الدين لم يذهب سدى. لقد كان استشهاده تأكيداً على أن المعركة مع المشروع الصهيوني هي معركة مصيرية، وأن حدودها تمتد من النجف إلى غزة، ومن حارة حريك إلى كل حارة ترفض الظلم. في النهاية، ها هو صفي الدين ينتصر بدمه، مذكراً الجميع أن المقاومة ليست خياراً سياسياً، بل هي قدر شعب يرفض أن يُمسخ تاريخه وتُسرق أرضه.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور