الإثنين 03 تشرين ثاني , 2025 03:11

حين تخاف واشنطن من أدواتها: ترامب يجرّد نتنياهو من مفاتيح الحرب

نتنياهو وترامب

للمرة الأولى منذ قيام المشروع الصهيوني، تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى فرض الوصاية السياسية والعسكرية المباشرة على "إسرائيل"، لا لأن تل أبيب فقدت قدرتها على إدارة حرب، بل لأنها فقدت القدرة على الانضباط ضمن منطق الإمبراطورية. الخطوة التي اتخذتها إدارة دونالد ترامب — تأسيس سلطة أميركية موازية في القدس لمراقبة سلوك نتنياهو العسكري — ليست مجرد تدبير ظرفي لضمان وقف إطلاق النار في غزة، بل هي إعلان صريح عن تراجع الثقة بين المركز الإمبراطوري وأداته الإقليمية الأكثر اعتمادًا عليه.

الإمبراطورية تخاف أدواتها

في السرد الأميركي التقليدي، تُقدَّم "إسرائيل" كذراع متقدمة للديمقراطية في "شرق أوسط فوضوي"، لكن هذا السرد ينهار عندما تبدأ الذراع بالتصرف وفق مصالحها الخاصة، وتُهدد بإشعال حروب غير منضبطة. ما فعله ترامب في غزة وإيران في إنهاء حربِ الاثني عشرَ يومًا هو تذكير للتابع بموقعه الطبيعي. لقد تحوّلت "إسرائيل" — بعد عامين من حرب إبادة في القطاع — إلى عبء إستراتيجي على واشنطن، بعدما باتت تصرفاتها تهدد ما تبقى من شرعية الدور الأميركي في إدارة النظام الدولي.

من هنا يمكن فهم قرار البيت الأبيض إقامة "غرفة عمليات" في القدس، لا تبعد كثيرًا عن مقر إقامة نتنياهو. فهي ليست "هيئة تنسيق" كما أُعلن، بل جهاز رقابة صارم على قرار الحرب والسلم، يشرف عليه جنرالات أميركيون مفوضون مباشرة من البيت الأبيض. إنها المرة الأولى التي تنتزع فيها واشنطن فعليًا القرار الأمني "الإسرائيلي" وتضعه في يدها، في مشهد لا يختلف كثيرًا عن ما فعلته في دول محتلة رسميًا.

"إسرائيل" تحت الوصاية

الولايات المتحدة، التي لطالما قدّمت نفسها كضامن لحرية "إسرائيل" في "الدفاع عن نفسها"، قررت فجأة أن تُقيد تلك الحرية. والسبب بسيط: لم تعد واشنطن قادرة على تحمل كلفة نزق نتنياهو السياسي. فالحرب بالنسبة إليه ليست سياسة دفاعية بل وسيلة بقاء، تمد عمره في الحكم وتؤجل محاكماته بتهم الفساد. كلما اقتربت جلسة في المحكمة، اندلعت غارة جديدة على غزة.

ترامب، بخلاف أسلافه، لم يعد يرى في "إسرائيل" حليفًا متفوقًا، بل تابعًا متمردًا يحتاج إلى إعادة تأهيل. من هنا جاء تصريحه الصريح بأن "نتنياهو سيواصل الحرب لسنوات إن تُرك وحده". إنّ هذا الإدراك لم ينشأ عن قناعة إنسانية أو مراجعة أخلاقية، بل عن حسابات سلطوية بحتة: فواشنطن، المنهكة من حروبها المتتالية، لا تحتمل انفجارًا جديدًا قد ينسف مسار إعادة ترتيب المنطقة وفق مصالحها.

تآكل السيادة "الإسرائيلية"

حين قال المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هاريل إن "قواعد اللعبة تُكتب في واشنطن"، كان يصف لحظة تاريخية في العلاقة بين الطرفين. "إسرائيل"، التي طالما تفاخر قادتها بأنهم "أسياد مصيرهم"، وجدت نفسها مضطرة للامتثال لتعليمات علنية من البيت الأبيض: سحب الطائرات المتجهة لضرب إيران، الاعتذار لقطر بعد غارة فاشلة، وقف العمليات الجوية في غزة، بل وحتى قبول وجود ضباط أميركيين على الأرض يراقبون تنفيذ وقف إطلاق النار.

هذه ليست مجرد "ضغوط صديقة"، بل إعادة صياغة لوضع "إسرائيل" كـ"محمية أميركية" — كما وصفها يائير لبيد. فالمسألة لم تعد في مستوى المشورة أو التنسيق، بل في جوهر السيادة: من يملك قرار استخدام القوة؟

الإجابة لم تعد غامضة. رئيس الأركان "الإسرائيلي" السابق غادي آيزنكوت نفسه اعترف بأن العملية تُدار من جهة خارجية. والنتيجة، كما قال، "تقييد جيش الدفاع الإسرائيلي"، أي خضوعه العملي لقيادة أميركية فوقية. إنّ هذا التحول، الذي يجري وسط صمت رسمي، ينسف أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" لأنه ببساطة لم يعد يملك حق القتال دون إذن.

من إدارة الحرب إلى إدارة نتنياهو

ترامب، الذي يفاخر ببراغماتيته المصلحية، لا يرى في نتنياهو سوى خطر على استقراره السياسي ومشروعه في إعادة صياغة الشرق الأوسط. لذلك انتقل من محاولة "ضبطه" إلى مرحلة "تحييده". حين طالب الرئيس الأميركي بالعفو عن نتنياهو خلال زيارته لتل أبيب، لم يكن ذلك بدافع التعاطف، بل كجزء من إستراتيجية: تجريد الرجل من الذريعة التي يستخدمها لمواصلة الحرب.

فترامب يدرك أن محاكمة نتنياهو تدفعه إلى التمسك بالقتال بوصفه درعًا يحميه من القضاء والرأي العام. ومن هنا جاءت فكرة "العفو الوقائي" كصفقة سياسية: نهاية الحرب مقابل نهاية المحاكمة. إنها إحدى أكثر اللحظات سخرية في علاقة السيد بالتابع؛ إذ يطلب الحاكم الإمبراطوري من حليفه أن يتخلى عن العدوان مقابل أن يُعفى من الفساد.

المقاومة التي أخافت الراعي

لكن ما لا يقوله ترامب علنًا، أن الخوف الحقيقي ليس من نتنياهو وحده، بل من تداعيات فشل "إسرائيل" في غزة. لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرة غير مسبوقة على الصمود، ما كشف حدود القوة "الإسرائيلية"، وأجبر واشنطن على إعادة حساباتها. إن استمرار الحرب كان يعني مزيدًا من التآكل في صورة الولايات المتحدة كقوة "ضابطة للنظام"، ومزيدًا من التعاطف العالمي مع الفلسطينيين، ومزيدًا من الانقسام داخل الغرب نفسه.

لذلك، فإن ما يفعله ترامب في جوهره هو محاولة لإنقاذ صورة الإمبراطورية من السقوط الأخلاقي والسياسي. فحين تبدأ أدوات القوة في فضح عجز القوة نفسها، يصبح ضبطها واجبًا وجوديًا. ولهذا نرى البيت الأبيض يقيم سلطة ظلٍّ في القدس، تُشرف على كل قرار إسرائيلي كما لو أن تل أبيب أصبحت قاعدة أميركية أخرى في الشرق الأوسط.

واشنطن و"إسرائيل": نهاية التحالف العضوي

لطالما كانت العلاقة بين الطرفين تقوم على معادلة "التحالف اللامشروط"، لكن التحالف لا يدوم حين يفقد التابع صوابه. ترامب، الذي يقيس كل شيء بمكسب مباشر، أدرك أن بقاء "إسرائيل" على نفس المسار التدميري سيقوّض مشروعه الإقليمي. فبدلاً من أن تكون "إسرائيل" أداة في هندسة الشرق الأوسط، تحولت إلى عائق أمامه.

إنّ الصراع الخفي بين ترامب ونتنياهو ليس حول غزة فحسب، بل حول طبيعة النظام الذي سيحكم المنطقة في العقد المقبل. واشنطن تريد شرقًا أوسطًا خاضعًا لمنطق الصفقات والاتفاقيات، بينما يريد نتنياهو شرقًا قائمًا على الحروب الدائمة. الصدام بينهما هو صدام بين نموذجين للهيمنة: الإمبراطورية العقلانية التي تسعى لإدارة السيطرة بأقل كلفة، و"الدولة التوراتية" التي لا تعرف إلا النار.

حين تفقد الإمبراطورية أعصابها

إنّ أخطر ما في المشهد ليس تراجع "إسرائيل" إلى مرتبة التابع المكشوف، بل انكشاف هشاشة الإمبراطورية نفسها. فحين تضطر واشنطن إلى إرسال جنرالاتها إلى القدس لمراقبة حليفها الأقرب، فهذا يعني أن منظومة السيطرة التقليدية تفقد فعاليتها. الإمبراطور الذي يخاف من أدواته، يفقد السيطرة على أدواته، ثم على نفسه.

لقد حان زمن ما بعد الطاعة. "إسرائيل" التي بُنيت لتكون رأس حربة الغرب في الشرق، أصبحت اليوم عبئًا يحتاج إلى كبح. وترامب، رغم كل صلفه، يدرك أن استمرارها في نهجها الدموي سيجعل من واشنطن شريكًا في الإبادة لا ضامنًا للاستقرار. لذا كان الحل الوحيد — بالنسبة له — أن ينتزع منها مفاتيح الحرب.

في النهاية، ليست هذه وصاية أميركية جديدة على "إسرائيل"، بل وصاية على مشروع الإمبراطورية ذاته، محاولة يائسة لإنقاذ النظام العالمي الذي بدأ يتآكل من الداخل. فحين تضطر واشنطن إلى تأديب أدواتها، تكون قد دخلت مرحلة الخوف من نفسها.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور