التطورات المتسارعة وأحياناً غير المتوقعة في الشرق الأوسط قد خرجت عن مسارها الطبيعي إلى درجة أدت إلى ظهور وتوسع نطاق من التحليلات السياسية في الأوساط الإعلامية وحتى تصريحات مسؤولي بعض الحكومات الغربية، حيث يتمحور كل هذا الطيف من التحليلات وخط الأخبار حول إضعاف إيران واستنزاف قوتها الإقليمية.
وتحديداً، فإن شرارة تشكل هذه التحليلات تعود إلى تطورات السنة الأخيرة على الساحة الميدانية لأزمة غزة؛ بدقة، منذ وقوع المجزرة المروعة واسعة النطاق لقادة حزب الله من المستوى المتوسط عبر العبث بأجهزة النداء الآلي، واغتيال عدد من كبار قادة المقاومة الإسلامية في لبنان، وآخرها اغتيال سيد شهداء المقاومة، السيد حسن نصرالله، ورئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، السيد هاشم صفي الدين، بدأ هذا التيار التحليلي وبلغ ذروته مع الانهيار السريع وغير المتوقع لحكومة دمشق والتطورات اللاحقة في ساحة الحرب داخل قطاع غزه وخارجها، من استشهاد یحیی السنوار و سائر قیادة المقاومة؛ ومن وجهة نظر هذا الطيف من التحليلات، فإن هذه الأحداث تعني بالضبط قطع الشريان الحيوي وطرق دعم إيران لجبهة أذرعها النيابية في المنطقة. لكن السؤال لا يزال مطروحاً في الرأي العام وكذلك في الأوساط التحليلية والإخبارية العالمية: هل أُضعفت إيران خلف هذه التطورات وفصلت عن قدراتها السابقة؟
بطبيعة الحال، أي إجابة على هذا السؤال يمكن أن تؤثر على جانب التصورات وكذلك السياسات المعلنة والمطبقة للاعبين إقليميين آخرين وحتى القوى الخارجية.
بين المحللين السياسيين الغربيين، ادعى فريد زكريا، المراسل والمحلل الشهير في سي إن إن، منذ فترة: "أن جمهورية إيران الإسلامية قد أُضعفت بشكل غير مسبوق، وهي بحاجة ماسة للبقاء إلى رأس المال والتكنولوجيا الأجنبيين، ومستعدة للتفاوض مع إدارة ترامب حول برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات ودمجها في المجتمع الدولي... لقد اعتمدت استراتيجية النظام الإيراني خلال العقدين الماضيين على دعم قواتها النيابية (حزب الله، حماس، الحوثيون، وبشار الأسد) لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين (إسرائيل، السعودية، الإمارات)، وهذا الدعم الاستراتيجي قد تلاشى تماماً اليوم لدرجة أن جمهورية إيران الإسلامية لم تكن ضعيفة كما هي اليوم منذ هجوم صدام حسين على إيران في عام 1980."
هذا مجرد مثال واحد من بين تحليلات واسعة في الأيام الأخيرة تشير إلى إضعاف إيران وضعف في قوتها الإقليمية.
ولكن ما هي حقيقة الأمر؟ هل تمتلك إيران أساساً قوات نيابية يؤدي إضعافها إلى إضعاف إيران؟ هل سُلِبَت المبادرة من إيران؟ هل تتواجد إيران في موقف ضعف وسلبية ولا يمكنها كما في السابق متابعة برامجها ورغباتها ومقاصدها على الساحة الإقليمية؟
بطبيعة الحال، فإن الإجابة الموسعة والتحليلية على كل هذه الأسئلة غير ممكنة في الوقت المحدود لمذكرة صحفية، ومع ذلك سيتم بذل جهد لوضع الخطوط العريضة للنقاش الرئيس لدراسة جوانب الظاهرة المختلفة في فرص أخرى.
أولاً: إن أدوات تنفيذ ومتابعة السياسة الخارجية الإيرانية تفتقر أساساً لعنصر يسمى القوة النيابية. ما يُسمى بتيار المقاومة هو حقيقة موضوعية وأصيلة وخارجية، حيث يعمل كل منها بناءً على مقاصده وأيديولوجيته وكذلك استناداً إلى قاعدته الاجتماعية وجذوره التاريخية، ونقطة الاتصال الوحيدة بين إيران وبينهم هي أوجه مشتركة مثل التحرر، والسعي للاستقلال، ومعارضة تيار الصهيونية الدولية الطامعة والإمبريالية العالمية. في الواقع، إيران تدعم هذه التيارات بناءً على المصالح المشتركة وكذلك المسؤولية الدينية والأخلاقية، ولم تسعى أبداً لاستيعابهم داخلها، كما شهدنا بشكل واضح تماماً خلال العقود الأربعة الماضية مرات عديدة وجود فجوات وخلافات في الرأي بين إيران وبعض أجزاء محور المقاومة، مما أدى في بعض الفترات التاريخية إلى انخفاض مستوى علاقات إيران معهم. لذلك، ما يُسمى بمحور المقاومة يشير إلى حقيقة خارجية تسير في طريقها من خلال ديناميكيات النظام الإقليمي، مع أو بدون دعم إيران، وفي هذا الطريق لا تدعمهم إيران فحسب، بل العديد من الدول العربية والإسلامية الأخرى تدعمهم رسمياً وبشكل علني.
ثانياً: على الرغم من الحرب متعددة الأبعاد الطويلة الأمد الأخيرة، والتي رافقتها أيضاً دعم غربي كامل لإسرائيل، ورغم كل الخسائر البشرية والمادية الكبيرة، استطاع تيار المقاومة بعد 22 شهراً من الحرب المدمرة أن يخرج منتصراً ومظلوماً، ووفقاً لاعتراف كبار القادة العسكريين والمسؤولين السياسيين الإسرائيليين، فقد فشل هذا الكيان في تحقيق أهدافه المعلنة في الحرب، ولا يزال حياً وفاعلاً ومحدداً بفاعلية نشطة ومؤثرة. وبالطبع، فإن حجم الخسائر الكبير والمواجهة الوحشية للكيان الصهيوني خلال الحرب الأخيرة استنزفت بشكل طبيعي جزءاً كبيراً من موارد المقاومة وأخرجت مسألة إعادة بناء المناطق المتأزمة من قدرة قوات المقاومة، ولكن بما أن المقاومة ليست مشروعاً خارجياً بل هي حقيقة تاريخية ومتجذرة في المجتمع، فهي عنصر لا يمكن إزالته من جغرافيا المنطقة. ومع ذلك، فإن الشواهد البيئية وتحديداً ما شهدناه بعد "معركة أولي البأس" على الجبهة الشمالية من قبل المقاومة الإسلامية في لبنان وكذلك خط الدعم المستمر لأنصار الله في اليمن، جميعها تشير إلى استعداد عالٍ للمقاومة لأي مواجهة جديدة؛ وهو أمر يعترف به خبراء عسكريون صهاينة بشأن المقاومة الإسلامية الفلسطينية أيضاً إلى حد ما، حيث تمكنت حماس من إعادة بناء شبكة قيادتها وعملها بشكل ملحوظ والابتعاد عن صورة الخاسر.
ثالثاً: من مجمل التطورات الأخيرة، يبدو أنه على حد تعبير باري بوزان، فإن النظم الفرعية الأمنية في الشرق الأوسط تتغير بسرعة في العلاقات بين عناصرها المنظمة للنظام، ويتشكل نظام جديد في هذه المنطقة لم يتخذ شكلاً دقيقاً بعد، ومن السابق لأوانه الحكم على طبيعة هذا النظام. هذه العملية، تحت تأثير العوامل الخارجية ومخرجات مستوى النظام، تظهر طبيعتها السائلة أكثر فأكثر، حيث يشكل فوز دونالد ترامب دفعة فعالة في هذا المجال. ترامب، بسياساته القومية الأمريكية، غيّر اتجاه سياسات الولايات المتحدة إلى الداخل، ويبحث عن تقليل التكاليف الخارجية للولايات المتحدة وزيادة الاهتمام العالمي بأمريكا كسوق إنتاجية كبيرة وتيار مزود للمواد الأولية مثل النفط. مع كل الجوانب، يمكن الاعتقاد بأن المنطقة الأكثر تقدماً اليوم في تحديد طبيعة النظام العالمي هي منطقة الشرق الأوسط، وستنتقل نتائج منافسات مستوى النظام الدولي داخل الصراعات الحالية بطريقة ما إلى مناطق أخرى من السياسة العالمية؛ لذلك، من هذا المنظور، من الطبيعي أن تتوسع دائرة التوتر والصراع في هذه المنطقة إلى ما وراء جغرافيتها، وهذا بدوره يزيد بشكل ملحوظ من تعقيد العمليات.
رابعاً: مصادر قوة إيران لها في الأساس طبيعة داخلية المنشأ، وما يحدد مجال تأثيرها يشير مباشرة إلى المبادرات الإيرانية وإمكاناتها الكامنة. من الطبيعي في مثل هذه الأوقات أن تكون سياسة الضغط الأقصى ضد إيران برنامجاً جاداً للتعامل مع إيران. كما صرح دونالد ترامب مؤخراً، على عكس هذا التيار التحليلي، بأن إيران لا تزال تلعب دوراً حاسماً وتتمتع بقوة ملحوظة، وأنه لا يحمل أبداً صورة قوة أُضعفت عن إيران في ذهنه، مؤكداً على أن إيران هي لاعب قوي بقدرات حاسمة. لذلك، فإن أولوية إدارته الرئيسية هي تقييد إيران من خلال العودة إلى سياسة الضغط الأقصى وجلب أوروبا إلى جانبها لاستخدام آلية الزناد وتنفیذ سیاسة عودة جميع العقوبات التي أُلغيَت بموجب الاتفاق النووي.
إجمالاً، يعتقد كاتب هذه السطور أن مشروع "إيران الضعيفة" هو مجرد سياسة إعلامية لاستخدام القوة البنائية للإعلام للتأثير على عنصر المعرفة والنظام الإدراكي للإيرانيين وكذلك مؤيدي خطابها النظري، وذلك لتمهيد الطريق لزيادة فعالية خط العقوبات داخل إيران وخارجها.
ومع ذلك، يجب الانتباه إلى أنه، كما أكدت سابقاً في تحليلات أخرى، فإن قوة جمهورية إيران الإسلامية هي في الأصل ذات طبيعة داخلية المنشأ، وأهم ركيزة في هذا الصدد هي القوة الاجتماعية واعتماد النظام السياسي على قاعدته الشعبية، والتي يجب الحفاظ عليها بجدية. بطبيعة الحال، التهديد الرئيس لقوة إيران هو إضعاف هذه القاعدة الشعبية للنظام السياسي.
يعتقد الكاتب أن ساحة الصراع في العالم المقبلة هي حرب من نوع حرب الإرادات. بالضبط نفس الأطروحة التي طرحها ألكسندر دومارونش في "الحرب العالمية الرابعة" قبل عقود، وهي أن الحرب العالمية القادمة هي حرب الروايات؛ هي حرب العقائد؛ هي ساحة مواجهة الحقائق والواقع.
كاتب وباحث سياسي من إيران.
عضو الهيئة الأكاديمية لمعهد الإمام الخميني (رض) والثورة الإسلامية.