لم يعد الضغط على كيان الاحتلال حكراً على قاعات الأمم المتحدة أو مداولات المحاكم الدولية. فالأحداث المتتالية خلال الأسابيع الماضية أظهرت أن نطاق الاستهداف السياسي والشعبي يتسع، ليشمل فضاءات المجتمع المدني، والمبادرات الفردية، وحتى الفعاليات الثقافية والسياحية حول العالم. هذا التحول يعكس مساراً متسارعاً نحو عزلة مركبة، يجتمع فيها البعد القانوني مع الرمزي، ما قد ينعكس على مستقبل علاقات الاحتلال الدولية.
خلال الشهر الماضي، رصدت وسائل إعلام غربية سلسلة وقائع بدت مترابطة في رسالتها وإن اختلفت في ساحاتها. حيث أفادت تقارير عن ملاحقة جنود سابقين في الجيش الإسرائيلي بتهم ارتكاب جرائم حرب فور وصولهم إلى بعض دول أميركا اللاتينية وأوروبا، في مؤشر على أن مسار المساءلة لم يعد حبيس الأطر الأممية، بل بات يجد منافذ عبر القوانين الوطنية وأنظمة القضاء في دول متعددة.
إلى جانب المسار القضائي، سجلت أعمال تخريب استهدفت منشآت إسرائيلية في سيدني وبرلين، وألغى منظمو مهرجان موسيقي بلجيكي مشاركة منسق موسيقى إسرائيلي بسبب "مخاوف أمنية"، فيما تعرض سياح إسرائيليون "لاعتداءات" في أثينا. قد لا تكون هذه الحوادث ناتجة عن خطة مركزية، لكنها تعكس حالة غضب وانتقالها من الخطاب السياسي إلى الأفعال الميدانية.
السلطات الإسرائيلية تعاملت مع الأمر بوصفه أزمة أمنية تستدعي الحذر، إذ نصحت وزارة الخارجية مواطنيها المسافرين إلى الخارج "بالتقليل من إظهار جنسيتهم". هذه التوصية، وإن صيغت بعبارات دبلوماسية، تحمل اعترافاً ضمنياً بأن صورة الاحتلال في الخارج تمر بأحد أسوأ مراحلها في العقود الأخيرة، وأن الانكشاف الميداني قد يضع حتى الأفراد بعيدين عن السياسة في دائرة الخطر، بحسب تعبيرهم.
وبحسب صحيفة واشنطن بوست الأميركية، "يخشى مسؤولون حاليون وسابقون من أن تؤدي هذه التطورات إلى فرض عقوبات أوسع، بما في ذلك حظر المشاركة في فعاليات دولية، وتشديد الحظر على تصدير واستيراد الأسلحة، وإلغاء امتيازات السفر بدون تأشيرة إلى دول تعد رئيسية بالنسبة للكيان. هذه السيناريوهات، إذا تحققت، ستعني انتقال كيان الاحتلال من مرحلة إدارة الأزمات الدبلوماسية إلى مواجهة عزلة ممنهجة".
الدبلوماسي السابق ألون إيسخاروف لخّص المخاوف للصحيفة قائلاً: "هذه عملية يمكن أن تتفاقم في اتجاهات مختلفة.. نحن نعيش في عالم معولم. لا إنسان ولا دولة جزيرة معزولة" هذا التحذير يعكس إدراكاً داخلياً بأن الاقتصاد والسياسة والثقافة مترابطة في عصر العولمة، وأن المساس بصورة "الدولة" على أي مستوى يمكن أن يولد تفاعلات تؤدي إلى خسائر أوسع بكثير من حدود الواقعة نفسها".
هذه الموجة من التوترات الدولية لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع للحرب على غزة وما خلفته من صور تركت أثرها البالغ بالرأي العام العالمي واتهامات موثقة بانتهاك القانون الدولي الإنساني. فمع اتساع التغطية الإعلامية العالمية، وتزايد المبادرات الشعبية المطالبة بالمقاطعة أو المحاسبة، يجد الاحتلال نفسه أمام معادلة جديدة: لم يعد بالإمكان احتواء تداعيات الحرب ضمن الحدود الجغرافية، بل باتت سمعة هؤلاء تأخذ صبغة أعمالهم وارتكباتهم الفعلية والذين حاولوا اخفاءها، في الأسواق، والمهرجانات، وحتى المحافل السياحية.
إضافة إلى ذلك، هناك تحول نوعي في طبيعة الضغوط. ففي العقود السابقة، كان التركيز على الضغوط الرسمية عبر الحكومات والمنظمات الدولية، وغالباً ما كانت اسرائيل قادرة على استيعابها عبر تحالفاتها السياسية والعسكرية. أما اليوم، فإن جزءاً كبيراً من الضغط يأتي من المبادرات المجتمعية والشعبية التي لا يمكن احتواؤها بالوسائل الدبلوماسية التقليدية، ما يزيد من صعوبة مواجهتها أو وقفها.
كما أن هذا المناخ يفتح الباب أمام ما يمكن تسميته بـ"تأثير العدوى" بين الدول والمؤسسات. فإذا ألغى مهرجان ثقافي في أوروبا مشاركة فنان إسرائيلي، قد تشعر مهرجانات أخرى بالضغط لاتخاذ قرارات مشابهة، ليس بالضرورة بدافع التضامن السياسي المباشر، بل لتجنب الجدل أو المخاطر الأمنية. هذا النمط التراكمي قد يؤدي إلى تبلور مقاطعة غير رسمية واسعة، تسبق أي قرارات سياسية رسمية بالعقوبات.
إن الأحداث الأخيرة تمثل مؤشرات على تحول ملموس في علاقة كيان الاحتلال بالعالم الخارجي، من حالة دعم أو تسامح نسبي إلى بيئة متزايدة العداء، تتقاطع فيها الاعتبارات الحقوقية مع الأمنية والثقافية. استمرار هذا المسار، في ظل غياب تغييرات جوهرية في السياسات، قد يضع الاحتلال أمام عزلة سياسية واقتصادية حقيقية، ليس فقط في أروقة السياسة الدولية، بل في تفاصيل الحياة اليومية لمستوطنيه في غزة، خاصة وأن الابادة بحق الشعب الفلسطيني مستمرة وتنقل موثقة بالصوت والصورة على الهواء مباشرة وتتصدر أخبار كبرى القنوات الفضائية والصحف.
الكاتب: غرفة التحرير