الخميس 03 تموز , 2025 03:27

تداعيات المواجهة مع إيران: موجات هروب جماعي وانهيار أسطورة "الدولة الملاذ"

مستوطنون إسرائيليون في المطار وصواريخ إيرانية

تشير التجارب التاريخية إلى أن استقرار الدول لا يُقاس فقط بقدرتها على الردع العسكري، بل بمدى رسوخ ثقة مواطنيها في منظومة الحماية السياسية والاجتماعية. ومن هذا المنظور، تبدو التحولات التي تشهدها إسرائيل في مرحلة ما بعد المواجهة مع إيران في حزيران/يونيو 2025 مثيرة للانتباه. فبعيدًا عن المشهد الميداني المباشر، أخذت تطفو على السطح مؤشرات متفرقة لهجرة عكسية غير معلنة، تمثلت في مغادرة أفراد وجماعات – لا سيما من الفئات الميسورة أو حاملي الجنسيات الأجنبية – عبر البحر، أو من خلال مسارات غير تقليدية.

ورغم غياب الإحصاءات الرسمية، وندرة المعلومات المحدثة – حيث يعود آخر تحديث حكومي موثوق حول الهجرة إلى نهاية عام 2024 – فإن ما تنقله الصحافة الإسرائيلية وشهادات شهود عيان يقدم صورة أولية عن ظاهرة آخذة في التشكّل بهدوء. هذا التقرير لا يدّعي تقديم حصيلة رقمية، بل يسعى إلى قراءة الاتجاهات والمعاني العميقة المرتبطة بالتحولات السلوكية للإسرائيليين في لحظة أزمة، من خلال معاينة حالات النزوح غير المنظم، والتراجع الملحوظ في الشعور الجمعي بالأمان، والانكشاف البنيوي للثقة بالدولة ومؤسساتها.

مشهد اليخوت – "ممر الهروب" الجديد

جاءت المعطيات التي كشفت عنها صحيفة هآرتس في تقرير موسّع نُشر بتاريخ 16 حزيران/يونيو 2025 لتسلّط الضوء على مظهر حاد من مظاهر هذا التحوّل السلوكي: حالات مغادرة بحرية غير رسمية لعشرات المدنيين من مرافئ إسرائيلية، أبرزها هرتسليا، حيفا، وعسقلان، عبر يخوت خاصة وغير مرخصة، باتجاه قبرص، ومن هناك إلى وجهات أوروبية متفرقة. هذه التحركات التي جرت بعيدًا عن أية رقابة مؤسساتية أو تنظيم قانوني واضح، تُجسّد ما يمكن تسميته بـ "الهجرة تحت الطوارئ"، حيث تتداخل الحاجة الأمنية الفردية مع تآكل الثقة بالمنظومة السيادية.

ويبيّن التقرير أن الفئات المغادرة لم تنحصر في إطار واحد؛ بل شملت إسرائيليين فقدوا الإيمان بقدرة الدولة على حمايتهم، وسياحًا تقطّعت بهم السبل، ومقيمين مزدوجي الجنسية فضّلوا العودة إلى أوطانهم الأصلية، إضافة إلى رجال أعمال وأفراد من النخبة الاقتصادية سعوا إلى حماية مصالحهم وأصولهم. أما العنصر اللافت في هذه الظاهرة، فهو ليس فقط في حجمها أو نمطها غير النظامي، بل في الرمزية التي اكتسبها مشهد الهروب ذاته: وداعات على أرصفة الموانئ، ارتباك عاطفي، مشاهد قلق وارتجال، وانطباعات متكررة بين المسافرين بأن "البحر أكثر أمانًا من الأرض" – وهي مفارقة تنطوي على دلالات نفسية عميقة تُعبّر عن انكسار العلاقة بين المواطن والدولة، حتى في مستوياتها الرمزية.

هذه الظواهر، وإن لم تتحول بعد إلى حركة هجرة جماعية موثقة، فإنها تُعبّر عن اتجاه نوعي جديد قد يحمل تداعيات بعيدة المدى على البنية السوسيولوجية والسياسية للمجتمع الإسرائيلي، خاصة إذا ما استمر الإحساس بانعدام الأمان وتضعضع العقد الاجتماعي الذي قام عليه الكيان الصهيوني الحديث.

هروب الثروة ونزيف العقول

تشكّل ظاهرة هروب الثروة ونزيف العقول من الكيان إحدى أبرز تداعيات الأزمة الراهنة، التي تعصف بالبلاد في أعقاب تصاعد المواجهات الإقليمية، لاسيما مع إيران. وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة Henley & Partners بالتعاون مع New World Wealth، من المتوقع أن يغادر إسرائيل خلال عام 2025 نحو 350 مليونيرًا، وهو رقم يعكس مستوى مرتفعًا بالنسبة لحجم السكان، ويضع الدولة ضمن لائحة الدول الأكثر فقدانًا للثروة البشرية والمالية.

لكن الأبعاد الخطيرة لهذه الظاهرة لا تقتصر على الخسائر المالية فقط، بل تشمل هجرة نخبة حيوية من العلماء والمهندسين والأطباء، لا سيما العاملين في مؤسسات أمنية وعسكرية وتقنية. فهذه النخبة تمثل العمود الفقري لبنية الدولة الحديثة، وغيابها يشير إلى "نزيف ناعم" يحذّر منه عدد من الخبراء، ومن بينهم البروفيسور أرنون سوفر، الذي وصف هذه الحالة بأنها "أخطر ما قد تواجهه إسرائيل"، نظرًا لأن الأمر لا يتعلق فقط بهجرة عدد من الأفراد، بل بفقدان الكوادر التي تبني وتدير الاقتصاد الوطني والقدرات الدفاعية.

تفاقمت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ عقب الضربة الإيرانية الدقيقة التي استهدفت مركز معلومات أبحاث عسكرية في تل أبيب، والتي لم تقتصر على البعد العسكري فحسب، بل أثرت نفسيًا على تلك النخب التي كانت ترى في إسرائيل بيئة آمنة لتطوير قدراتها العلمية والتقنية. هذا الاختراق النوعي للعمق الإسرائيلي ساهم في هزّ الثقة بمعادلة الردع، وأثار قلقًا متزايدًا لدى أصحاب الكفاءات بشأن مدى أمن مراكز عملهم وحياتهم.

ترافق ذلك مع تزايد طلبات الهجرة إلى دول غربية تتمتع باستقرار أكبر سياسيًا وأمنيًا، ما يحول الهجرة من ظاهرة فردية إلى نزيف استراتيجي يُهدد الاقتصاد الوطني، ويضعف القدرات الدفاعية والتكنولوجية للدولة، ويقوض ثقة الجمهور بمستقبل "إسرائيل". وباختصار، فإن هجرة العقول لا تمثل فقط تعبيرًا عن الخوف من التهديدات الأمنية، بل تعكس اهتزازًا أعمق في الإيمان الجماعي بقدرة الدولة على الحفاظ على رأس مالها البشري الأهم في ظل أزمات متصاعدة تتجاوز المجال العسكري إلى المجال العلمي والتقني.

إضافة إلى ذلك، كشف تقرير هجرة الثروات الصادر في 24 حزيران/يونيو 2025، عن موجة هجرة عالمية ضخمة لأكثر من 142 ألف مليونير حول العالم، من ضمنها إسرائيل التي تواجه تحديًا متزايدًا بخروج 350 مليونيرًا. ويرتبط هذا الاتجاه بتدهور عوامل الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، حيث تتخذ قرارات المغادرة غالبًا بناءً على معايير تتعلق بالاستقرار الضريبي، والأمن الشخصي، وتوافر فرص الاستثمار، وهي عناصر حاسمة في احتفاظ الدول بنخبتها الاقتصادية.

يُعد هذا النزيف الاستراتيجي خسارة فادحة، إذ لا يفقد الاقتصاد فقط رؤوس الأموال، بل يُفقد معه الابتكار والمهارات التي تدعم تنافسية الكيان الاقتصادية، وتقود قطاعات التكنولوجيا المتقدمة الحيوية لديمومة الدولة. وبهذا الشكل، يصبح هروب الثروة والعقول مؤشرًا حاسمًا على هشاشة المشهد الداخلي، وينذر بإمكانية تعميق الأزمة الأمنية والاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد.

تفكك عقد الأمان النفسي – انهيار فكرة "الدولة الملاذ"

منذ احتلاله في عام 1948، استند الكيان في بناء مشروعه السياسي والاجتماعي إلى مفهوم "الدولة الملاذ"، الذي يروّج له كملجأ آمن وحصن يحمي يهود العالم من كل أشكال التهديد والاضطهاد. هذا السرد التاريخي شكّل حجر الزاوية في الهوية الوطنية الإسرائيلية، وعزز الإيمان الجماعي بقدرة الدولة على توفير الأمان والاستقرار لمواطنيها والمهاجرين إليها.

غير أن الظواهر الراهنة، وخاصة مشاهد الهروب الجماعي من داخل الكيان عبر البحر أو المنافذ الجوية، تضع هذا المفهوم على المحك، بل وتقوضه من جذوره. إذ أن تحوّل البحر الأبيض المتوسط إلى "طريق لجوء" يستخدمه المستوطنون أنفسهم للهروب من واقعهم الأمني المتدهور، يعيد إنتاج مشاهد كانت مقتصرة سابقًا على اللاجئين من دول تعاني من الفشل السياسي أو الأزمات الحادة.

هذا الانهيار الرمزي لفكرة "الدولة الملاذ" لا يعكس فقط تراجع الثقة بالأمن المادي، بل يعبر أيضًا عن تفكك العقد النفسي والاجتماعي بين الدولة ومواطنيها. إذ بات الأفراد يشكون في قدرة مؤسسات الدولة على حمايتهم، في وقت يتطلب فيه الصراع الإقليمي تصعيدًا في الوحدة الوطنية والتماسك الداخلي. كما أن هذا الانهيار يؤثر على المصداقية الدولية للكيان، ككيان قادر على الجمع بين التفوق التكنولوجي والقوة الأمنية والأمان الاجتماعي، ما قد ينعكس سلبًا على جاذبيته في استقطاب المهاجرين والاحتفاظ بالنخب.

الطبقية في الفرار:

تكشف ظاهرة الهروب الجماعي من الكيان عن بعد اجتماعي يتعلق بالطبقية وعدم المساواة في فرص النجاة والهروب. فالأفراد الذين يمتلكون موارد مالية كافية أو يحملون جنسيات أجنبية تمكّنوا من الفرار عبر يخوت خاصة أو من خلال مطارات خارجية، مما منحهم قدرة أكبر على تأمين حماية شخصية والابتعاد عن مناطق الخطر. في المقابل، ظل المواطنون الأقل قدرة، لا سيما سكان المناطق الحدودية والفئات الفقيرة، محاصرين في الملاجئ وأماكن الحماية، معرضين بشكل أكبر للخطر الجسدي والنفسي.

هذا الانقسام يعكس اتساع الفجوة الطبقية في المجتمع الإسرائيلي، حيث لم تعد مسألة النجاة حقًا متاحًا للجميع بالتساوي، بل تحولت إلى امتياز محصور بين فئات اجتماعية واقتصادية معينة. وبالتالي، تُبرز هذه الظاهرة ضعف قدرة الدولة على توفير حماية متساوية لجميع مواطنيها، كما تكشف عن قصور في سياسات الإنصاف والأمن الاجتماعي في أوقات الأزمات، مما يفاقم من هشاشة النسيج الاجتماعي ويهدد التماسك الوطني.

غياب الحكومة عن المشهد

يُعدّ غياب تدخل الحكومة الإسرائيلية في ضبط ظاهرة الهروب الجماعي عبر البحر مؤشراً بارزاً على ضعف السيطرة المؤسسية في أوقات الأزمات. فوزارة الداخلية تفتقر إلى الرقابة الفاعلة على حركة المغادرين، بينما تُعاني هيئة السكان والهجرة من أضرار وإغلاق مراكزها جراء القصف الإيراني، ما أدى إلى عجزها عن رصد الظاهرة وتنظيمها. كذلك، لم تلعب وزارة الدفاع أو وزارة المواصلات دوراً واضحاً في تنظيم أو منع هذه التحركات غير النظامية.

ما يحدث في الكيان عقب الحرب الإيرانية الصهيونية يتجاوز مجرد تحركات جغرافية أو هجرات اقتصادية تقليدية، بل يشكّل ظاهرة أعمق تتمثل في هجرة نفسية، سياسية واجتماعية. هذه الهجرة تعكس تراجع الانتماء إلى فكرة الدولة ذاتها، واهتزاز موقع إسرائيل في النظام الدولي، وانهيار صورتها كمَلاذ آمن لليهود حول العالم، لتحلّ محلها صورة كيان سياسي عاجز عن توفير الطمأنينة والأمان لمواطنيه.





روزنامة المحور