حين تبلغ منظومة القمع ذروتها، فإنها لا تكتفي بتجريد الضحية من أرضه أو حريته، بل تسعى إلى سلبه آخر مقومات إنسانيته: الجوع. وفي غزة، لم يعد الجوع نتيجة للحصار، بل غدا سياسة صريحة، معلنة، ومدارة بوعي دموي من قادة عسكريين يصرّحون – بلا خجل – أن طوابير الخبز أهداف مشروعة. إننا أمام لحظة كاشفة للعقل الاستعماري حين يبلغ أشدّ تجلّياته: لا يكتفي باحتلال الأرض، بل يحتل الحياة نفسها، ويحوّل كل شكل من أشكال البقاء إلى جريمة يعاقَب عليها الفلسطيني بالموت. في هذا المشهد، لا تكون المساعدات الإنسانية شريان نجاة، بل فخًا ميدانيًا، توزع فيه الذخيرة أكثر مما يُوزع الطحين، وتُصاغ فيه "أيديولوجيا القتل" لا باعتبارها انحرافًا فرديًا، بل كسياسة دولة.
رصاص بدلاً من الخبز
ما يجري في قطاع غزة منذ بدء خطة "مؤسسة غزة الإنسانية" لا يمكن اعتباره خطأ في التنسيق أو خللًا في إدارة توزيع المساعدات، بل هو تجسيد واضح لاستراتيجية صهيونية ممنهجة توظف الجوع كسلاح، وتحوّل مراكز المساعدات إلى مصائد موت.
ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها "الجيش الإسرائيلي" التكتيك نفسه، لكن الجديد اليوم هو العلنية، الصراحة الصادمة التي عبّر بها الجنود "الإسرائيليون" لصحيفة هآرتس عن تعليمات قادتهم: أطلقوا النار على من يقترب من المساعدات، حتى وإن لم يكن مسلحاً. إحدى العبارات التي نقلها التقرير تقول بوضوح: "نطلق النار على طالبي المساعدات كأنهم قوة هجوم". وهنا ينكشف جوهر العقيدة "العسكرية الإسرائيلية" في غزة: أي فلسطيني جائع هو خطر يجب تصفيته، حتى وإن كان يرفع يديه للسماء طالبًا رغيف خبز.
استراتيجية القتل الجماعي: بين المساعدات والذخيرة
بحسب وزارة الصحة في غزة، منذ بدء تنفيذ الخطة "الأميركية-الإسرائيلية" في 27 مايو/أيار، سقط 549 شهيدًا وأكثر من 4000 جريح قرب مراكز توزيع المساعدات، أي ما يعادل ضحايا مجازر كاملة تُنفّذ يوميًا على مرأى ومسمع من العالم. لكن حين يأتي الإقرار من داخل "الجيش الإسرائيلي" نفسه، فإننا لا نحتاج إلى "تقارير استخباراتية" أو "تحقيقات مستقلة" لإثبات الجريمة. الجناة يتحدثون عن جرائمهم وهم يرتدون الزي الرسمي، ولا يخشون الملاحقة.
جندي آخر يقول لهآرتس إن استهداف المدنيين أصبح "أمراً روتينيًا" في الجيش. ما يُفهم من هذا التصريح ليس فقط انعدام المحاسبة، بل أيضًا أن ما يجري هو سياسة ممنهجة. السياسة نفسها التي اعتمدت لعقود في الضفة الغربية، واليوم تتكرر في غزة بشكل مكثف: تحويل كل فعل مدني – كطلب الماء أو انتظار الطعام – إلى خطر أمني يبرر القتل.
المؤسسة الإنسانية: قناع للسيطرة والفوضى
ما تُسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" التي تنفذ الخطة "الأميركية-الإسرائيلية" خارج إشراف الأمم المتحدة، هي في الواقع أداة استعمارية جديدة صيغت بعناية لتكريس سيطرة الاحتلال على حركة الغذاء، وتهميش المؤسسات الدولية، وتحويل عملية الإغاثة إلى فصل جديد من فصول الحرب. ليس غريبًا أن يقع معظم إطلاق النار في المناطق العازلة جنوب غزة، حيث تُنفذ عمليات التوزيع تحت حماية "الجيش الإسرائيلي" للشركات الأميركية، وتُترك الحشود الجائعة لمصيرها.
هنا، لا يعود القتل مجرد رد فعل على الفوضى، بل يصبح شرطًا من شروط تنفيذ الخطة. في غياب المؤسسات الإنسانية المحايدة، تتحول الحشود البشرية الجائعة إلى أهداف متحركة يمكن التخلص منها عند أي "خلل أمني"، فيما يُستخدم "الفشل" المتكرر في إيصال المساعدات ذريعة لتكثيف الانتشار العسكري وتوسيع مناطق السيطرة.
حين يصبح القتل أيديولوجيا
لم يكن ما كشفته صحيفة هآرتس مجرد تسريب عسكري، بل شهادة إدانة استراتيجية. أحد الجنود وصف استهداف المدنيين قرب المساعدات بأنه "أيديولوجيا القادة الميدانيين". هذه الجملة بالذات تعري تمامًا العقلية التي تحكم التصرفات "الإسرائيلية" في غزة. فالمسألة لم تعد تتعلق فقط بتنفيذ أوامر عسكرية، بل هي قناعة أيديولوجية مزروعة في الهرم القيادي، ترى في قتل الفلسطينيين الجائعين ليس فقط ضرورة أمنية، بل مهمة عقائدية.
إنها نفس الأيديولوجيا التي دافعت تاريخيًا عن "كي الوعي الفلسطيني"، وعن استخدام القصف على البيوت والبنية التحتية كوسيلة لتركيع الناس. الفرق أن أدوات الإبادة اليوم لم تعد تقتصر على الصواريخ، بل شملت الطحين والماء وعلب الطعام.
"الفوضى المنظمة": سلاح حرب جديد
شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية حذرت بوضوح من أن "إسرائيل" تسعى لتكريس الفوضى والعنف في القطاع عبر السيطرة على توزيع المساعدات. إنها فوضى مقصودة، تُدار وتُراقب وتُستثمر. حين تجوّع السكان، وتُحاصر شاحنات الغذاء، ويُطلق الرصاص على من يقترب، يصبح الجوع ساحة قتال، وتتحول أي حركة نحو الطعام إلى مغامرة محفوفة بالموت.
هذه ليست نتائج جانبية لحرب، بل تصميم مقصود لأداة حرب جديدة. بدلاً من "أطواق الأمن" و"حملات التمشيط"، لدينا الآن "ممرات مساعدات" تُحوّل إلى حقول قتل. وبدلاً من "الجدار العازل"، لدينا "الخطة الأميركية لتوزيع المساعدات"، التي تقيم مناطق عازلة تُحاصر فيها الحشود الجائعة حتى تُقتل أو تتراجع.
واشنطن شريكة في الجريمة
لا يمكن فصل ما يجري عن السياق السياسي الأوسع. فالخطة التي بدأت في 27 مايو/أيار جاءت بقرار "أميركي-إسرائيلي" مشترك، وتمّ تنفيذها بعيدًا عن أي رقابة أممية. بمعنى أوضح: واشنطن قررت أن تُقصي الأمم المتحدة، وتمنح "إسرائيل" اليد الطولى في إدارة ما تبقى من حياة في غزة.
والنتيجة: عملية توزيع مساعدات تتحول إلى ساحة مجازر يومية، تشرف عليها القوة العسكرية نفسها التي حاصرت غزة وقصفتها على مدى الشهور الماضية. هذا التحالف بين "النيوليبرالية الإنسانية" والسلاح، الذي يُدار من غرف القرار في واشنطن وتل أبيب، هو تعبير عن شكل جديد من الاستعمار الإغاثي، حيث تكون المساعدات أداة لإخضاع السكان، لا لإنقاذهم.
الصمت الدولي: تواطؤ أم شلل؟
في مواجهة كل هذه المعطيات، تبرز فجوة فاضحة في ردود الفعل الدولية. فلا الأمم المتحدة أوقفت الخطة، ولا المنظمات الإنسانية الكبرى انسحبت من الصمت، رغم معرفتها بما يجري. ومع كل شهيد يسقط قرب شاحنة غذاء، يتضح أن الصمت لم يعد مجرد "عجز"، بل أصبح شريكًا فعليًا في التغطية على المجازر.
الجرائم التي وصفها جنود الاحتلال في تقرير هآرتس تكفي، في عالم يحترم نفسه، لفتح ملف محاكمة علنية في محكمة الجنايات الدولية. لكنها على الأرجح، ستمر كغيرها في سجل طويل من الانتهاكات التي لا يُحاسَب عليها أحد، طالما أن الضحية فلسطينية، والجلاد يرتدي الزي "الإسرائيلي"، والراعي أميركي.
سياسة الجوع والدم
إن ما نراه في غزة اليوم هو تطور جديد في هندسة الاحتلال: جغرافيا الجوع تتحول إلى خريطة موت، والمساعدات تُستخدم كطُعم لاصطياد المدنيين. هي إبادة تُنفذ بأدوات إنسانية، وبتغطية سياسية دولية، وأيديولوجيا عسكرية تعلنها القيادات الميدانية بلا مواربة.
ما كشفته شهادة الجنود ليس مجرد تفاصيل مروعة، بل هو دليل على انهيار المنظومة الأخلاقية للاحتلال "الإسرائيلي"، وعلى فشل المجتمع الدولي في القيام بدوره. لكن هذا الدليل أيضًا يحمل رسالة للضمير العالمي: "إن صمتكم لم يعد تواطؤًا فحسب، بل مشاركة فاعلة في واحدة من أكثر جرائم القرن فظاعة".
وإلى حين يُحاسَب القتلة، سيبقى الفلسطيني الجائع أمام خيارين: أن يُقتل لأنه جائع، أو أن يموت جوعًا لأنه لا يريد أن يُقتل.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com