لم يعد الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك هو الخبر الأول في الصحف، بل بعدد الحاضرين بعد أن غادرت الأغلبية القاعة عند اللحظة الأولى من صعوده إلى منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا الحضور الشحيح الذي تحول إلى عنوان مستقل وسبق مضمون الكلمة في التغطيات والتعليقات الإسرائيلية والأميركية على حد سواء، كان كمشهد متكامل قدّم وحده خلاصة أكثر بلاغة من أي فقرة وردت في الخطاب، وفتح الباب لتساؤلات أوسع حول المكانة الدولية لإسرائيل، والقدرة المتآكلة لرئيس وزرائها على تسويق روايته واقناع بقية دول العالم بها.
في الإعلام الإسرائيلي، لم تعد محاولات بروتوكولية مثل التصفيق المتكرر من أعضاء الوفد، أو توزيع رموز QR على المعاطف لتعويض الفراغ الرمزي والبصري، قادرة على إخفاء الإحراج. القناة 12 وصفت القاعة بأنها "فارغة بالكامل تقريباً"، وأشارت إلى أن مغادرة الوفود لم تكن حادثاً عرضياً، بل رسالة صريحة حول "نظرة العالم لإسرائيل". أما مراسلة القناة 13 فذهبت أبعد حين ربطت المشهد بصورة "دولة تُرفض لا لشخص رئيسها فقط، بل لسياساتها وحربها المستمرة على غزة". العبارة التي لاقت انتشاراً واسعاً في الإعلام العبري هي أن ما جرى كان "بصقة في وجه إسرائيل"، وهو تعبير استخدمه أكثر من معلق للإشارة إلى الإهانة الدبلوماسية العلنية.
في المقابل، لم تحاول الصحف الإسرائيلية تغليف الخطاب بأي إنجاز سياسي أو رمزي. الانتقادات الداخلية جاءت من داخل المعسكر السياسي نفسه، يائير لبيد تحدث صراحة عن رئيس وزراء "منهك ومتذمر" لم يقدم خطة لإعادة الأسرى، ولا تصوراً لإنهاء الحرب، ولا تبريراً لعدم تحقيق الأهداف المعلنة بعد ما يقارب العامين من الحرب على غزة. هذا التوصيف لم يعد محصوراً بالمعارضة، فالمحلل العسكري رون بن يشاي رأى أن الخطاب تجنّب التعليق على تصريحات محمود عباس الأخيرة واعترافه "بالدولة العبرية"، في تجاهل يشي بانقطاع سياسي وفكري عن الواقع الإقليمي.
حتى الأداء الخطابي نفسه كان مادة انتقاد، إذ وصف مراسل القناة 12 كلمة نتنياهو بأنها "الأضعف والأكثر ارتباكاً منذ عقدين"، مشيراً إلى التلعثم وغياب السلاسة والخطاب الدفاعي المفرغ من الإقناع. سابقة تفاخر نتنياهو بأن الجيش الإسرائيلي يبث كلمته مباشرة عبر هواتف سكان غزة ونشطاء المقاومة بدت، في قراءة بعض المواقع العبرية، محاولة استعراضية لا تستند إلى تأثير فعلي، خاصة مع تضارب الأنباء بشأن وصول الصوت إلى مناطق القطاع.
على الجانب الأميركي، لم يظهر الخطاب في مستوى اللحظة السياسية. الاهتمام لم ينصرف إلى مضمون ما طرحه نتنياهو بقدر ما التقط رمزية الفراغ في القاعة والانسحابات المنظمة للوفود. بعض الصحف الأميركية اختزلت الحدث في "صورة العزلة"، معتبرة أن قاعة الأمم المتحدة لم تعد منصة تمنح الشرعية، بل مرآة تعكس حجم التراجع في صورة إسرائيل الدولية. كما التُقطت التظاهرات قرب مقر الأمم المتحدة وفي تايمز سكوير بوصفها خلفية ضاغطة على الخطاب أكثر من كونها حدثاً موازياً له.
الفارق في هذه المناسبة أن الحدث الإعلامي لم يُصنع من مضمون الكلمات، بل من غياب المتلقّي. فالكلمة التي كان يُفترض أن تمثّل دفاعاً استراتيجياً عن الحرب على غزة، أصبحت تفصيلاً ثانوياً أمام صورة كرسيّ أممي فارغ ووفود تغادر واحداً تلو الآخر. هنا برزت المعادلة المعكوسة: الخطاب موجود لكن المخاطَب غير حاضر، والإعلام يجد في اللقطة أكثر مما يجده في البيان.
في الداخل الإسرائيلي، هذا الانكشاف الخارجي يأتي في لحظة ارتباك سياسي ومجتمعي. الضغط من عائلات الأسرى، الاحتجاجات على استمرار الحرب، والانقسامات العميقة داخل الائتلاف الحكومي كلها تشكّل أرضية تُقرأ من خلالها دلالات نيويورك. فالمسألة لم تعد متعلقة بانتقاد خطاب أو تشكيك في أداء، بل بوضع القيادة الإسرائيلية تحت مجهر مساءلة لا تتحكم في شروطه.
ما حدث في قاعة الأمم المتحدة أعاد طرح سؤال أوسع حول العلاقة بين الحرب المستمرة والسقف المتناقص للتأييد الدولي. فالمشهد لم يكن انفعالاً عابراً أو موقفاً رمزياً من بعض الوفود، بل تعبيراً عن تحوّل تراكمي في نظرة عواصم عديدة إلى سياسات تل أبيب. وعلى الرغم من أن نتنياهو حاول، كما جرت عادته في المنتديات الدولية، استخدام الخرائط والسرديات لتثبيت موقفه، فإن المشهد أكد أن أدواته الاستعراضية فقدت وظيفتها السابقة.
كانت القاعة الفارغة في نيويورك لحظة تعكس تآكل القدرة على تسويق الحرب، وتحوّل المنبر الدولي إلى مساحة تعرض العزلة بدلاً من تثبيت الشرعية. وفي ظل هذا الانكشاف، لن يبقى سؤال الخطاب هو ماذا قال نتنياهو؟ بل لمن كان يتحدث؟ في غياب جمهور يعترف بشرعية الخطاب أو بصاحبه.
الكاتب: غرفة التحرير