منذ معركة "أولي البأس" في خريف 2024، دخلت المقاومة الإسلامية طورًا جديدًا من التموضع العسكري والردعي، انتهجت فيه الكمون الاستراتيجي كمرحلة مؤقتة بعد وقف إطلاق النار، دون التنازل عن قدراتها أو حضورها الردعي (في وعي العدوّ – حيث يعتبر حزب الله تهديداً صريحاً لعمقه الإستراتيجي). غير أن المتغيّرات المتسارعة بعد عملية "الأسد الصاعد" الإسرائيلية ضد إيران، والردّ الإيراني بعمليّة " الوعد الصادق 3" وتداعياتها على الداخل الإيراني والبيئة الإقليمية، وتداعياتها على الداخل الإسرائيلي وجبهتها الدّاخليّة، أعادت فتح ملف سلاح حزب الله بوتيرة أعلى من سابقاتها، مع التشديد على هذه الآليات: ضغوط دولية، اقتصادية، وديبلوماسية متعددة الاتجاهات، وصولًا إلى محاولات نزع السلاح تحت غطاء قرارات مجلس الأمن أو التهديد بعزل لبنان.
وبالتزامن مع التهديد المستمر للبنان سياسيًا وعسكريًا، والاغتيالات الإسرائيلية المتكررة على أراضيه، والتهويل في بيروت عبر رسائل دبلوماسية وأمنية مباشرة من الأميركيين والخليجيين، بات من الضروري تفكيك المشهد بقراءة تحليلية عسكرية دقيقة، تبحث في أهداف العدو، طبيعة التهديد، وسيناريوهات المواجهة أو التراجع.
أولًا: التحييد العسكري لحزب الله بعد "أولي البأس"
أدى التكتيك الدفاعي لحزب الله في معركة أولي البأس إلى تحقيق أهداف ردعية عالية التأثير، إلّا أن الحسابات الاستراتيجية للحزب فرضت عليه القبول بوقف إطلاق النار لحسابات لا يمكن ذكرها هنا، وبعد بلوغ الهدف الأساسي بعدم السّماح للعدوّ بالتّوغل داخل العمق (رغم احتلال العدوّ بعدها للنقاط الخمس في فترة وقف إطلاق النار) ، ودون الدخول في حرب استنزاف غير متكافئة أو مواجهة ميدانية واسعة (لا تحقّق الهدف المنشود بل تعود بالضّرر على جبهة محور المقاومة)، خصوصًا في ظل انكشاف الجبهة السورية وسقوطها ميدانيًا بعد الانقلاب وانتصار ما يسمّى بالثورة وبعد الاستهداف المركّز لخط الإمداد.
التحييد هنا ليس انسحابًا من المواجهة، بل تموضع في ظل التهديد. ويُفهم كموقف تكتيكي تحت سقف حسابات الردع الإقليمي، وتفادي الوقوع في فخ مواجهة إسرائيلية – حزب الله غير محسوبة.
ثانيًا: متغيرات ما بعد الضربة على إيران، الضغط على "الحلقة اللبنانية"
الضربة الإسرائيلية لإيران (عملية الأسد الصاعد) وتداعياتها الإعلاميّة، حيث سوّق لها العدوّ والأميركي نجاحها بتحقيق أهدافها، أثّرت بنظر العدوّ على الهيبة الرّدعيّة وخلقت فراغًا مؤقتًا في محور المقاومة حاولت إسرائيل وواشنطن استغلاله لتصفية بعض الجبهات الثانوية والّتي عولج البعض منها مطلع العام 2025 مثل جبهة سوريا، وأبرزها:
- لبنان: الحلقة الأضعف جغرافيًا والأخطر عملياتيًا.
- سوريا: المحيّدة ميدانيًا، وخطوط إمداد حزب الله المقطوعة، وحكومة الوسط دمشق التي أصبحت موالية للصهيونيّة.
- العراق: متخبط داخليًا.
ومن هنا بدأ الضغط السياسي على حزب الله بشكل مباشر، عبر:
- التصعيد السياسي في بيروت: رسائل خارجية بأن وجود الحزب يعوق الاستقرار ويؤخر المساعدات.
- التهديدات الأمنية: رسائل إسرائيلية باغتيالات إضافية واستهداف بنية الحزب في البقاع.
- التدويل عبر الخليج: مبادرات خليجية مشتركة مع فرنسا وأميركا للربط بين نزع السلاح والانفتاح الاقتصادي.
ثالثًا: التأثير النفسي والعملياتي للضغط على بيئة المقاومة
- محاولات فصل البيئة الشعبية عن المقاومة عبر الإعلام، الحرب السيبرانية، الاختراقات النفسية.
- استهداف العمق الاجتماعي الشيعي اقتصادياً.
- التصعيد في الخطاب الداخلي حول "سلاح خارج الدولة"، مدعومًا بخطاب سياسي محلي ودولي.
رابعًا: السيناريوهات المفترضة للمسار اللبناني – عسكريًا واستراتيجيًا
السيناريو الأول: حرب إسرائيلية محدودة على حزب الله
- تقوم على استثمار الضربة الإيرانية وغياب الغطاء السوري.
- تخوضها إسرائيل بحرب خاطفة على البنية العسكرية للحزب من الجنوب إلى البقاع.
- رد حزب الله سيكون موضعيًا ولكن نوعيًا، لضمان عدم انفلات الجبهة (تكتيك محتمل).
السيناريو الثاني: عملية نزع السلاح سياسيًا
- عبر مشروع دولي – عربي مشترك يُربط بالانتخابات أو المساعدات الاقتصادية.
- لكنه سيفشل، لأن الحزب لن يسلّم السلاح فهو يضعه في ميزان القوّة لمهواجهة أعدائه.
السيناريو الثالث: إعادة تموضع الحزب في إطار ردع جديد
- اعتمادًا على تفعيل هجومات إيذائيّة على المواقع الخمس لما تحمله من شرعيّة بوجوب إخراج العدوّ من الأرض، واستنهاض الأحرار في الوطن بوجوب تحرير الأرض.
- تكثيف الحرب الإلكترونية والاستخباراتية ضد التجسس الإسرائيل (يعتبر تكتيك لمنع العدوّ من تجديد بنك أهداف) وإجراءات مضادّة بإعدام التّكنولوجيا لتحييد العدوّ استخباراتيّاً (يبقى هذا تكتيكاً قابلاً للتحقّق في حال نشط الوعي والحذر الوقائي).
السيناريو الرابع: انفجار المواجهة الشاملة مجددًا
- حال عودة المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، ستكون المواجهة شاملة لقوى المحور لإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة واسترجاع قواعد الاشتباك وتحقيق الرّدع.
- هذا السيناريو سيجعل من لبنان الساحة الأولى للردّ وتوسعة رقعة الحرب (كنت قد تحدّثت سابقاً عن إمكانية الضّغط من قبل الإيراني دوليّاً على العدوّ الصهيوني والأميركي لإعادة رسم قواعد الاشتباك في حال أراد الأميركي الذّهاب الى هدنة طويلة الأمد، في هذه الحالة سيضغط على الإسرائيلي للتّخلي عن بعض الامور التّكتيكيّة والتنازل عنها، وهذه في حال الذّهاب الجدّي للمفاوضات، ولكن المماطلة الأميركية لا تخوّل الإيراني في الوقت الحالي الضّغط في مجلس الأمن لصناعة التّوازن في المنطقة مع عدم اعتراف العدوّ بالهزيمة، ومع احتمال تجدّد النار).
خامسًا: الوعي الاستراتيجي لحزب الله يعمل على: (رأي شخصي)
- تحصين بيئة المقاومة ضد التفكيك النفسي والسياسي.
- إعادة بناء الوعي الأمني (الفردي والمجتمعي)
- إظهار عزيمة وقدرة المقاومة وبيئتها على الصّمود في وجه الفتن والمحن العسكريّة والسّياسيّة
- التمسك بالمشروع الإقليمي المقاوم، والدّفاع عن المقاومة كفرة، والتأصيل لها ( المقاومة فكرة والفكرة لا تموت).
- الكتّاب والمنظّرون والنّخب والعلماء، دورهم الآن في رفع الشّبهات وتوجيه المسارات، وتبيان الوقائع، وتنفيس الضّغوطات، وقلب الموازين إعلاميّا، فالجهاد غير محصور بالسلاح.
خاتمة:
يجب كسر الحصار عبر معادلة التمسّك بالسلاح ولا عودة إلى المربّع الأول، فإنّ العدو الإسرائيلي – بدفعٍ أميركي – يسعى لما أسماه يوماً "كسر الحلقة اللبنانية"، بعد أن نجح مؤقتًا في عزل الجبهات الأخرى. غير أنّ المقاومة تدرك أن التنازل الآن يعني خسارة المشروع بأكمله، لا موقعًا جغرافيًا فقط.
في المقابل، فإنّ سلاح حزب الله هو العقدة والضمانة معًا، العقدة في نظر العدو، والضمانة في نظر محور المقاومة. وكل حديث عن نزع السلاح يؤكد لي يوماً بعد يوم عن فشل العدوّ في تحقيق أهدافه في"أولي البأس".
الكاتب: ش أحمد علاء الدين