السبت 28 حزيران , 2025 12:25

ما هي تحيزات ترامب المعرفية في إدارة الصراع مع إيران؟

خطاب للرئيس ترامب

يتأثر القادة السياسيون، كما هو الحال مع جميع صنّاع القرار، بجملة من التحيزات المعرفية التي تُحدّد كيفية إدراكهم للوقائع وتقديرهم للخيارات المتاحة. غير أن خطورة هذه التحيزات تتضاعف حين تصدر عن فاعلين يمتلكون سلطة تقرير مصير الصراع والسلم، خاصة في البيئات عالية التوتر كالحروب. إذ يمكن أن تؤدي التحيزات إلى تضخيم التهديدات، وتقييد البدائل، وتغذية استراتيجيات تصعيدية غير متوازنة.

وتُعرّف التحيزات المعرفية على أنها أنماط منهجية من التفكير تؤدي إلى انحرافات في الحكم والتقدير، وتؤثر على كيفية استقبال المعلومات وتحليلها واتخاذ القرار في ظل الضغط أو الغموض.

تركّز هذه الورقة على رصد أبرز التحيزات المعرفية في سلوك دونالد ترامب، وتحليل أثرها في توجيه قراراته الاستراتيجية تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في محاولة لفهم العلاقة بين الإدراك المشوّه ومسارات التصعيد السياسي والعسكري.

أبرز التحيّزات المعرفية التي تتحكّم بقرارات ترامب

1- الحقيقة الوهمية: وهو الميل إلى ترسيخ القناعة أو التأثير على الآخرين عبر تكرار الرسالة نفسها باستمرار. فقد كرّر ترامب عبارة "لا يمكنهم امتلاك سلاح نووي" أكثر من عشرين مرة في مناسبات متعددة. كما يتكرر التعبير ذاته باستخدام جمل مثل: "الأمر بسيط جدًا"، "لن نسمح بذلك"، "هذا كل ما أردته".

الأمر الذي يؤدي إلى تشكيل إطار ذهني جامد عند المتلقي وصاحب القرار على حد سواء، يُصعب فيه إدخال معطيات جديدة أو تطوير السياسة بشكل مرن (تكراره للعبارات يعزز إيمانه بها، ويقلل من استعداده لسماع روايات بديلة أو معقدة).

2- تحيز التبسيط المفرط: وهو تفسير الظواهر المعقدة من خلال نماذج ثنائية مباشرة، تلغي التعقيد والتداخلات. حيث تُختزل السياسة الأمريكية تجاه إيران في جملة واحدة: لا لسلاح نووي. ويتجاهل الخطاب تعقيدات البرنامج النووي الإيراني، والبُعد السيادي، والبدائل الدبلوماسية.

يُستبعد التفكير الاستراتيجي الواقعي، مما يُسهل اتخاذ قرارات حادة، وغير مرنة.

3- التحيز التأكيدي: وهو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تدعم المعتقدات السابقة، وتجاهل ما يخالفها. حيث لا يُظهر ترامب أي استعداد لتقييم التقارير الدولية التي تفيد بعدم وجود نية إيرانية فورية لامتلاك سلاح نووي، كما يُظهر انحيازًا للرؤية المتجذرة التي ترى إيران خطرًا نوويًا داهمًا. ويعتمد ترامب على مصادر تؤكد ما يعتقده ("قال الإسرائيليون إن فوردو دُمرت بالكامل") ويرفض أي رواية إعلامية مغايرة (تقارير CNN كاذبة، وهذا عار).

هذا النمط يُغلق باب المراجعة أو التقييم الموضوعي لنتائج الضربة، مما قد يدفع لصياغة سياسات مستقبلية بناءً على تصورات أكثر من كونها وقائع. كما يؤدي لاستبعاد المسارات التفاوضية التي تقوم على فرضيات مغايرة، والإبقاء على التصعيد كخيار أولي.

4- التحيز العاطفي الإيجابي المشروط: وهو التعبير عن مشاعر إيجابية تجاه الطرف الآخر، ولكن مشروطة بتنازلات كاملة منه. حيث يكرّر ترامب عبارات مثل: "أريد لهم النجاح"، "الشعب الإيراني رائع"، لكن يقرنها دائمًا بشرط صارم: لا لسلاح نووي.

تُستخدم الرسائل الإيجابية كغطاء لخطاب ردعي وقسري، دون استعداد حقيقي للتفاهم المتبادل.

5- تحيز التفاؤل: ميل الأفراد إلى الاعتقاد بأنّ الوضع سيكون أفضل مما هو عليه فعلاً، وغالبًا ما يقللون من احتمال وقوع نتائج سلبية. وظهر ذلك في تصريحات ترامب: "سنتوصل إلى سلام قريبًا بين إيران وإسرائيل."

رغم تعقيدات الصراع ووجود اشتباكات عسكرية، يظهر ترامب تفاؤلاً مبالغًا فيه بحل دبلوماسي سريع، ما قد يؤدي إلى تقييم غير واقعي للفرص والتحديات.

6- تحيّز النتيجة: يدفع الأشخاص إلى الحكم على قرار أو فعل ما بناءً على نتيجته النهائية، بدلاً من تقييم جودة القرار أو العملية التي أدّت إليه. حيث يميل ترامب إلى تصوير الضربة الأميركية على أنها نقطة تحول مطلقة ("انتصار كبير"، "تمامًا كما فعلت ضربتا هيروشيما وناغازاكي")، ويتجاهل تعقيدات الديناميات الإقليمية ما بعد الضربة.

الأمر الذي يعزّز اتخاذ قرارات ذات طابع نهائي وردعي تقوم على افتراض أن ضربة واحدة يمكنها حسم صراع طويل ومعقد، ممّا يقلل من فرص التفكير الاستراتيجي المتدرج أو اعتماد حلول دبلوماسية شاملة.

7- الاستدلال السببي: يقوم الأفراد بتبسيط الأحداث المعقدة عن طريق نسبها إلى سبب واحد، وغالبًا ما يتجاهلون العوامل المساهمة الأخرى. حيث يُبسط ترامب العلاقة بين الضربة والسلام: "الضربة أنهت الحرب"، كما يفسر سلوك الطرفين (إسرائيل وإيران) بأنه ناتج عن تشتّت "لا يعرفان ماذا يفعلان بحق الجحيم".

ما قد يؤدي إلى سوء فهمٍ لطبيعة الحروب المركبة، وفشل في إدراك دوافع الطرف الآخر أو التوقعات بعيدة المدى، مما يُضعف القدرة على تصميم سياسة واقعية ومستدامة.

8- تحيز محاباة الذات/ الأناني: ترامب يقدم نفسه كصانع سلام ("تهانينا للعالم، حان وقت السلام"، "أنا من أوقفت الحرب")، ويضع نفسه في موقع الوسيط الحاسم بين الكيان وإيران.

الأمر الذي يعزّز النزعة الشخصية المفرطة في صنع القرار، ويقلّل من دور المؤسسات والتقديرات الجماعية، ممّا قد يقود إلى قرارات مرتجلة أو مبنية على اعتبارات رمزية.

9- تحيّز الهالة: تأثير انطباع إيجابي (أو سلبي) عام على تقييم خصائص أخرى مرتبطة بالموضوع. وقد ظهر من خلال نظرة ترامب للتصعيد الإسرائيلي بقوله: "إسرائيل تبلي بلاءً جيدًا جدًا ضد إيران."

الرؤية الإيجابية العامة تجاه الكيان تؤثر على تقييمه للأداء العسكري والسياسي دون نقد موضوعي متوازن.

10- تحيز السيطرة/ التحكم: ميل القادة إلى الاعتقاد بأنهم قادرون على التحكم الكامل بمجريات الأمور ومنع النتائج السلبية. ويظهر ذلك في تصريح ترامب "سنمنعهم بأي وسيلة" ما يوحي بيقين مفرط بالقدرة على التحكم بمصير إيران النووي، بغض النظر عن التعقيدات.

هذا التحيز يضغط باتجاه اتخاذ قرارات سريعة وعدوانية، ويعطي الأفضلية للإجراءات الفورية بدلًا من الاستراتيجيات الطويلة الأمد (يُنتج قرارات عالية الثقة، منخفضة الواقعية، ومشحونة بالاندفاع، ويضع الأمن الإقليمي والدولي في دائرة الخطر بسبب تجاهله للقيود والتعقيدات الفعلية).

أثر التحيزات المعرفية في تشكيل سياسة ترامب تجاه إيران

1- صعوبة الدخول في مسارات تهدئة واقعية: تُعيق التحيّزات القائمة على التكرار والتبسيط إمكانية الانخراط في مفاوضات واقعية.

2- تغليب الردع العدواني على الانخراط الدبلوماسي: تعزّز هذه التحيزات الاعتقاد بأن القوة هي اللغة الوحيدة الفاعلة، ما يفتح المجال أمام عمليات عسكرية محتملة.

3- اتساع الفجوة مع الحلفاء والمؤسسات: الإصرار على خطاب مبسّط ومطلق قد يصطدم مع مواقف أوروبية أو أممية تدعو للعودة إلى الاتفاقات السابقة.

4- تصعيد متبادل محتمل من الجانب الإيراني: كلما زادت الضغوط المطلقة دون أفق تفاوضي، زادت احتمالات لجوء إيران إلى خطوات نوعية في برنامجها النووي.

يتبيّن من خلال التصريحات والمواقف التي عبّر عنها دونالد ترامب تجاه إيران، ولا سيما خلال الحرب التي شنّها الكيان المؤقت على الجمهورية الإسلامية في إيران في 13 حزيران 2025، أن قراراته تتأثر بتحيزات معرفية متجذّرة تتسم بالجمود الإدراكي والنزعة التبسيطية في فهم التفاعلات الإقليمية والدولية المعقّدة.

تكمن خطورة هذه التحيزات في أنها تؤدي إلى اتخاذ قرارات حاسمة تنتهج أسلوبًا عقابيًا، مما يساهم في تصعيد متواصل ويقلّص فرص التوصل إلى تسويات سياسية، لا سيما فيما يتعلّق بالملف الإيراني. فبدلًا من تبنّي مقاربات تدريجية ومرنة تستند إلى التفاوض والتكيّف مع المتغيرات، يُستعاض عنها باستراتيجيات الإكراه واستخدام القوة كأدوات مفضّلة.

وفي هذا السياق، يُرجّح أن يستمر ترامب في اعتماد خطاب تصادمي يخدم أهدافه الداخلية من خلال تعبئة القواعد الشعبية وتغذية الشعور بالتهديد الخارجي، مما يُضعف فرص العودة إلى الاتفاق النووي، ويعزّز نهجًا أحاديًا في الردع، تغيب عنه المقاربات الواقعية الشاملة، نتيجة هيمنة أنماط إدراكية مغلقة تُقصي البدائل السياسية وتُضيّق مساحة الخيارات الاستراتيجية.

وبالتالي، فإن السياسة المتوقعة تجاه إيران ستميل إلى التصعيد المحسوب، والردع الاستباقي، وممارسة الضغوط القصوى مع استعداد شكلي للحوار المشروط، بما يعزز مناخ انعدام الثقة، ويقوّض فرص التفاهم المستدام، حتى في حال تغيّر السلوك الإيراني جزئياً. وعليه، فإن استمرار هذه البنية المعرفية في صناعة القرار سيُبقي الصراع ضمن إطار المواجهة المؤجلة، لا التسوية الواقعية.





روزنامة المحور